رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العشاء الأخير.. من القدس إلى وارسو


على مدى عشرين قرنًا ونيفًا من الزمان، ظل العشاء الأخير للمسيح عليه السلام مع تلاميذه، هو أشهر عشاء فى التاريخ لقدسيته ولأهميته الدينية، ولأنه شكل لحظة تاريخية ودينية فارقة، وحيث سجلت فيه أشهر خيانة فى التاريخ أيضًا ليهوذا الإسخريوطى الذى اتفق على تسليم المسيح لأعدائه لقتله، مقابل ٣٠ قطعة من الفضة، وهو ما يعادل ثمن العبد فى الشريعة اليهودية.
ستظل قدسية ورمزية العشاء الأخير قائمة لدى الأخوة المسيحيين، لكن الأمر قد لا يظل كذلك لأبناء الديانات الأخرى فى الشرق الأوسط، الذين ربما يعتبرون أن هناك عشاء آخر غيّر وجه تاريخ المنطقة، وهو ذلك العشاء الذى جمع على مائدة واحدة بين بنيامين نتنياهو ووزراء دول عربية محورية فى المنطقة، ضمن فعاليات مؤتمر وارسو بشأن إيران والشرق الأوسط.
أرجو ألا يتسرع البعض بإبداء امتعاضه- لأسباب دينية- من عقد مقارنة بين العشاءين، فهناك من وجهة نظرى على الأقل أكثر من موضوع للمقارنة أو للمقاربة، رغم اختلاف القدسية بالطبع للسيد المسيح عليه السلام، وانعدامها لنتنياهو الذى لا أشك للحظة أنه من أعدى أعداء السلام.
لقد كان العشاء الأخير للمسيح عليه السلام فى القدس، مع تلاميذه المخلصين باستثناء يهوذا، الذى باعه بثمن بخس ودفع ثمن الخيانة فى النهاية، وكان بداية لمرحلة فارقة فى التاريخ وفى الديانة المسيحية، حيث تلاه ما ورد عن الصلب والقيامة أو الصعود إلى السماء، أى أننا ونحن نتحدث عن التاريخ يمكن أن نقسمه بصورة واضحة، إلى ما قبل العشاء الأخير وما بعده.
أما عشاء وارسو الذى صدم الملايين من أبناء الشرق الأوسط، خاصة أن المؤتمر كله كان مفاجئًا لعموم الناس، لم تتم التهيئة له إعلاميًا بصورة متدرجة، وهو شىء مقصود وبعيد كل البعد عن قوانين الصدفة.. فمن الذى كان يتخيل هذا الحضور المفاجئ لوزراء خارجية دول عربية محورية لمؤتمر يحضره رئيس وزراء إسرائيل؟.
وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية للمؤتمر، وما يقال عن أنه بداية لعقد ما يعرف بصفقة القرن بين العرب وإسرائيل، فقد كان العشاء على مائدة واحدة بين هؤلاء الوزراء العرب وبنيامين نتنياهو صدمة أكبر بالنسبة للبسطاء، فمن الممكن أن نتفهم أن الولايات المتحدة تستطيع أن تفرض على ممثلى الدول العربية حضور هذا المؤتمر، الذى لا تزال أبعاده غامضة إلى هذه اللحظة، لكن هل فرضت عليهم أيضًا أن يأكلوا «العيش والملح» مع من كانوا يعلنون أنه عدو العرب والفلسطينيين الأول.
عشاء يسوع- عليه السلام- كان فى القدس، وعشاء وارسو كان من أجل القدس، التى أعلن الرئيس الأمريكى أنها عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، بينما يصر العرب على أن شرقها هو عاصمة للدولة الفلسطينية.
أكثر المرحبين بالتطبيع مع إسرائيل، صدموا من أن يتم التطبيع بهذه الطريقة، بعد عقود من المقاطعة والشجب والتنديد والتخوين أيضًا لكل من يقترب من إسرائيل، وهل ننسى أن العرب جميعًا قاطعوا مصر بعد عقد اتفاقية كامب ديفيد، التى استردت مصر بموجبها سيناء الغالية على قلوبنا جميعًا؟، ورغم أن الاتفاقية التى حققت مكاسب سياسية وسيادية كبرى لم تسفر عن أى تطبيع حقيقى على المستوى الشعبى بين مصر وإسرائيل.
من حقك أن تقول إن الإخوة العرب يفهمون الدرس متأخرًا، أو أنه لا يكفى أن يفهموا بل يجب أن يفرض عليهم الدرس فرضًا، والدرس الحقيقى أنه لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة فى عالم السياسة، وأن الشعارات العنترية لا تعبر عن مواقف سياسية صحيحة.. ولكن من غير المنطقى أو المقبول أن تجلس مع من كنت تعتبره عدوًا لدودًا على الطاولة، وتتناول معه العشاء دون أن تحصل على أى مكاسب سياسية حقيقية.
هل من المقبول أن نستبدل عدوًا بآخر بين عشية وضحاها؟ نعم أنا متفق مع من يعتبرون إيران عدوًا تاريخيًا للعرب، لم يتوقف لحظة واحدة عن رسم وتنفيذ المخططات الشيطانية لهدم الدول العربية والاستيلاء عليها تحت لواء الإمبراطورية الفارسية، ولكن هل اكتشفنا هذا فجأة؟ وهل يعنى هذا أن نعتبر إسرائيل صديقًا لنا فى مواجهة الشيطان الإيرانى؟ وهل يعنى هذا أن ننسى أو نتناسى أن إسرائيل قامت على أرض عربية مغتصبة؟.
فى العشاء الأخير قام المسيح عليه السلام بغسل أرجل تلاميذه، ليضرب مثلًا فى التواضع والقدوة، لكن الأمر يختلف. ففى عشاء وارسو نرى محاولة لغسل العقول وليس الأرجل، وتحويل سبعة عقود من العداء والكراهية، إلى تطبيع بلا ثمن، فلا السلام قد حل ولا الدولة الفلسطينية قامت، ولا حق العودة قد أقر.
ويبقى السؤال الملح: هل كان هناك «يهوذا» جديد على مائدة عشاء وارسو، باع القضية من أجل ٣٠ قطعة من الفضة؟.. هذا سؤال سوف يجيب عنه التاريخ.