رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل أنت موقن بالله حقيقة لا قولًا؟



هناك من اهتز إيمانه بعض الشىء خلال السنوات الأخيرة، هم وإن واظبوا على الصلاة، لكنهم تعرضوا لاهتزازة أثرت فيهم من الداخل، تحت تأثير الماديات التى تقوم عليها الحضارة الغربية، فهناك من لا يؤمن إلا بما يلمسه بيده فقط، فيغيب الخشوع عنه.
الإسلام وازن بين المادى والروحى، لا حياة مادية تمامًا تدور حول الأشياء المادية «المال والمتعة والشكل والمظاهر»، وهى وإن كانت مهمة، لكن عندما تكون على حساب روحك وتنسى قلبك وإيمانك، فهنا يتحول الإنسان إلى إنسان مادى.
لماذا يتمسك الغرب بهذه النظرية؟، لأنه مادى جدًا، لا يريد الإيمان بالغيب، لأن خلق آدم أمر غيبى معناه لا إله إلا الله، والإنسان من وجهة نظره فى أصله قرد تطور إلى أن أصبح بصورته الحالية، وهذا هو الأساس الذى تقوم عليه الحضارة الغربية.
أما الإسلام فهو يقوم فى الأساس على الإيمان بالغيبيات، وأول آية فى القرآن «يؤمنون بالغيب»، وثلث القرآن إيمان بالغيب «الجنة- النار- الحساب- الروح». وثلاثة أرباع الإيمان غيب، والإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
ستقول: أنا مؤمن بالغيب، لكن هل إيمانك معلومات نظرية أم إيمان يقين أم إيمان باهت ميّعته المادية؟، فالإيمان بالغيب اسمه اليقين، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، فهل أنت موقن بالله حق اليقين؟ الله تعالى أراد أن يكون الغيب فى حياتك يقينًا.. لن تكون مؤمنًا حقًا إلا عندما تكون مؤمنًا تمام اليقين.
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِى مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، فالإيمان بالغيب هو اليقين، واليقين هو مشاهدة الغيب بصفاء القلب، وطمأنينة القلب إلى حقيقة الشىء.
يقول ابن مسعود: اليقين هو الإيمان كله، واليقين هو الذى يحقق الفاعلية للإنسان فى الحياة، يخرج إنسانًا محفزًا، متفائلًا، مفعمًا بالأمل، فاليقين ضرورة للنجاح فى الحياة
وهناك درجات للناس فى اليقين «علم اليقين- عين اليقين- حق اليقين).. ماذا يعنى ذلك؟، لو قلت لك إن هناك بلدًا اسمه «بروج» وأنت لم تزره من قبل ولا تعرف عنه شيئًا قد لا تصدقنى، لكن لو اطلعت عليه من خلال الأخبار المتداولة عنه عبر محرك البحث «جوجل» ستصدق، وهذا «علم اليقين» القائم على معلومات، لكن لو رأيت صورة له، ستصدق أكثر «عين اليقين» لأنك رأيته بعينك، لكن لو حجزت لك تذكرة وذهبت إليه وتجولت فى شوارعه، هذا «حق اليقين»، لو حاول بعد ذلك ملايين البشر أن يقنعوك بأنه لا يوجد بلد بهذا الاسم لن تصدقهم.
والسؤال: أين أنت، وفى أى درجة تكون؟ هل أنت فى علم اليقين؟، أم فى عين اليقين؟، أم فى حق اليقين؟.. للأسف كثير منا توقف عند علم اليقين، وأصبح اليقين مجرد معلومات، فالمادية أفسدت اليقين فى حياتنا المعاصرة.
أشكال غياب اليقين فى حياتنا المعاصرة:
* عندما تتحول السرقة من جريمة إلى ثقافة يؤمن بها كثير من الناس، فهذا يعنى عدم اليقين فى الرزق من الله.
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس نفث فى روعى: إن نفسًا لا تموت حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا فى الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصى الله، فإن الله لا يُدرَكُ ما عنده إلا بطاعته».
* عندما يمتنع الغنى عن إخراج زكاته حتى لا يقل ماله فيموت الفقير، هذا ضعف يقين بأن الله يرد الإنفاق أضعافًا مضاعفة، أين اليقين فى «وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ»، «مَنْ ذا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ».
أين اليقين فى قوله، صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمره من كسب طيب فإن الله يربيها له حتى يلقى الله والتمرة مثل جبل أحد»، أين اليقين فى قول النبى «من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه»؟.
أين اليقين من أن المعروف لا يضيع أبدًا ولا بد أن يعود، كل خير له دوره كاملة ترجع لنقطة خروجها؟.
وهذا ما حصل مع فلاح فقير يدعى «فلمنج»، كان يعيش فى أسكتلندا وكان يعانى من ضيق ذات اليد والفقر المدقع، لم يكن يشكو أو يتذمر لكنه كان خائفًا على ابنه، فلذة كبده، فهو قد استطاع تحمل شظف العيش، لكن ماذا عن ابنه، وهو ما زال صغيرًا، كيف سيعيش حياة محفوفة بالمخاطر فى عالم لا يؤمن سوى بقوة المادة؟.
ذات يوم وبينما يتجول «فلمنج» فى أحد المراعى، سمع صوت كلب ينبح نباحًا مستمرًا، فذهب بسرعة ناحيته، حيث وجد طفلًا يغوص فى بركة من الوحل وعلى محياه الرقيق يرتسم الفزع، يصرخ بصوت غير مسموع من هول الرعب.
لم يفكر «فلمنج»، قفز بملابسه فى بحيرة الوحل، أنقذ حياة الصبى، فى اليوم التالى، جاء رجل تبدو عليه علامات النعمة والثراء فى عربة مزركشة تجرها خيول مطهمة ومعه حارسان، اندهش «فلمنج» من زيارة هذا اللورد الثرى له فى بيته البسيط، هنا أدرك أنه والد الصبى الذى أنقذه من الموت.
قال اللورد الثرى للرجل: «لو ظللت أشكرك طوال حياتى، فلن أوفى لك حقك، أنا مدين لك بحياة ابنى، اطلب ما شئت من أموال أو مجوهرات أو ما يقر عينك».
رد «فلمنج»: «سيدى اللورد، أنا لم أفعل سوى ما يمليه علىّ ضميرى، وأى فلاح مثلى كان سيفعل مثلما فعلت، فابنك هذا مثل ابنى والموقف الذى تعرض له كان من الممكن أن يتعرض له ابنى أيضًا».
أجاب اللورد الثرى: «حسنـًا، طالما تعتبر ابنى مثل ابنك، فأنا سآخذ ابنك وأتولى الإنفاق على تعليمه حتى يصير رجلًا متعلمًا نافعًا لبلاده وقومه»، لم يصدق الرجل البسيط، أخيرًا سيتعلم ابنه فى مدارس العظماء.
وبالفعل تخرج «فلمنج الصغير» فى مدرسة سانت مارى للعلوم الطبية، وأصبح رجلًا متعلمًا بل عالمًا كبيرًا، فذاك الصبى هو نفسه سير ألكسندر فلمنج «١٨٨١- ١٩٥٥» مكتشف البنسلين عام ١٩٢٩، أول مضاد حيوى عرفته البشرية على الإطلاق، ويعود له الفضل فى القضاء على معظم الأمراض الميكروبية، وحصل على جائزة نوبل فى عام ١٩٤٥.
لم تنته القصة، بل حينما مرض ابن اللورد الثرى بالتهاب رئوى، كان البنسلين هو الذى أنقذ حياته، ذاك الصبى ابن الرجل الثرى «الذى أنقذ فلمنج الأب حياته مرة، وأنقذ ألكسندر فلمنج الابن حياته مرة ثانية بفضل البنسلين» هو رجل شهير للغاية، فالثرى يدعى اللورد راندولف تشرشل، وابنه يدعى ونستون تشرشل، أعظم رئيس وزراء بريطانى على مر العصور، الذى قاد الحرب ضد هتلر النازى أيام الحرب العالمية الثانية «١٩٣٩ - ١٩٤٥» ويعود له الفضل فى الانتصار فيها.
الحكمة باختصار شديد جدًا: إذا عملت معروفـًا فلا تنتظر شكرًا من أحد، ويكفيك ثواب الواحد الصمد، وثق تمامًا بأنه لن يضيع أبدًا.