رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

Why not


أظن أن الذى يحدث فى الساحة المصرية الآن يؤكد على أن أمريكا تسير فى خطتها، والإخوان هم أداتها، ولكن الشعب المصرى كان له رأى آخر، فعلى عتباتها تتحطم الخطة المخابراتية الأمريكية كما تحطمت أمم غازية من قبل.

عبر ثلاث سنوات عكفت على عشرات الكتب، وقرأت مئات الوثائق، كنت أبحث فيها عن تلك الصلة الغريبة التى نشأت بين الإخوان وأمريكا، أو بالأحرى بين الإخوان والمخابرات الأمريكية، فقد كانت هذه الصلة واضحة وضوح الشمس بحيث لا تحتاج إلى تدليل أو توثيق، ولكن للعلم أحكامه، وللفهم أصوله، لذلك بعد سنوات من البحث أنتهيت من تأليف كتاب سميته «أئمة الشر» وقد كشفت فى هذا الكتاب عن أصل الخطة الأمريكية التى من أجلها تقابلت مع الإخوان فى طريق المصالح، تمامًا كما يقف العصفور على فك التمساح يخلصه من بقايا الطعام، والعصفور آمن على نفسه فهو يقوم بمهمة ثقيلة لسيده التمساح ولكنه من خلال هذه الخدمة سيقتات من بقايا طعامه .

خطة المخابرات الأمريكية لمساعدة الإسلاميين للوصول إلى كرسى الحكم تم إعدادها فى منتصف السبعينيات وكانت تحت عنوان «Why not» كبير مستشارى الأمن القومى وقتها هو العقل المدبر لها، والمتمم لآلياتها، كانت محاور الخطة الرئيسية تقوم على ضرورة استخدام «البطاقة الإسلامية» لزرع الفتنة فى المنطقة وتقسيمها، وفى سبيل التمهيد لذلك طلب مستشار الأمن القومى رسميًا من لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ إجراء «دراسة مستفيضة» على الأصولية الإسلامية نظرًا لما لها من «أثر سياسى متعاظم» فى أنحاء كثيرة من العالم، ووفقًا لما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» فإن مستشار الأمن القومى كان قبل ذلك قد وجه الأوساط الاستخبارية رسميًا لعمل دراسة متعمقة على هذه الظاهرة.

لم يكن من السهل أن يلمح أحد أن خطة «why not» أقيمت على فكرة استقرأها الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزى الشهير برتراند راسل المتوفى عام 1970، كتب فكرته فى كتابه الشهير «أثر العلوم فى المجتمع» الذى خرج إلى النور عام 1951، قال برتراند راسل: «يتزايد سكان العالم حاليًا بمقدار ٥٨ ألف نسمة فى اليوم الواحد، ولم يكن للحرب - حتى الآن- أثر عظيم على الحد من هذه الزيادة، لقد ثبت أن الحرب مخيبة للآمال فى هذا الخصوص حتى الآن، لذلك يجب أن يبحث أصحاب العقول الراجحة عن وسائل بديلة للحرب بين الدول، حينئذ سيكون من السهل أن يتحول جزء كبير من العالم إلى قطعان من الفلاحين التى خبرها الأجداد فى القرون الوسطى، ويكون من السهل على الدول الصناعية الكبرى أن تقود العالم».

فكرة «ترييف العالم» وجعله سلة غذاء للدول الصناعية الكبرى، هى الفكرة التى استحوذت على عقل الإدارة الأمريكية، يجب أن يتحول البشر فى معظم العالم إلى قطيع من الفلاحين الأجراء، أو العبيد، كل عملهم هو إعداد «مائدة الطعام» للسيد الصناعى الكبير.

كيف تطورت فكرة برتراند راسل وأصبحت خطة كاملة؟ كان ذلك عام 1975 حيث خرج إلى الوجود «مشروع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية لحقبة الثمانينيات» وهو استقراء خططى للمستقبل جاء فى ثلاثين مجلدًا، أما الذين شاركوا فى هذا العمل الضخم فهم أكبر العقول الاستراتيجية فى أمريكا، كان منهم سايروس فانس، وأنطونى سلومون، وهارولد براون، وبريجينيسكى.

يتلخص هذا المجلد الضخم فى كلمتين، هما «التفكيك المنضبط» لاقتصاد العالم، فكرة التفكيك هذه تقوم على إشاعة الفوضى الاجتماعية، والحروب الإقليمية بين الجارات، والحروب الأهلية فى الدولة الواحدة، وسيترتب على هذا زيادة نسبة الوفيات فى العالم، فيما يشبه الإبادة، وستكون هذه الإبادة بيد سكان كل منطقة، لا بيد الدول الصناعية الكبرى، ولكى يؤتى المشروع ثماره يجب أن يكون تفكيك دول المنطقة عن طريق إشاعة الفتن الدينية والعرقية والحدودية، فلينقسم الشرق الأوسط إلى «سنة» و«شيعة» ثم فلينقسم العالم السنى إلى أنصار الدولة الإسلامية وخصومها، ومن الأفضل تضخيم الروح العنصرية بين أبناء الدولة الواحدة، وليكن ما يكون.

ثم ماذا بعد؟ ما الذى سيحدث، وكيف سيستفيد «العالم الصناعى العملاق» من هذا الأمر؟ ستقوم حروب فى المنطقة لا شك. وفقا لنبوءة خطة التفكيك ــ وستشتعل فتن طائفية وعرقية حينما تتم تغذية مدخلاتها، وأكبر تغذية ستكون بتولية الإسلاميين الحكم فى بيئة صالحة للاضطراب والاشتباك العقائدى، ولكن هل ستجنى أمريكا من تلك الحروب أرباحًا؟ الربح هو الذى يدير العقلية الأمريكية، هو المسيطر على طريقتها فى الإدارة، سواء كان الحكم عندهم «جمهوريًا» أو «ديمقراطيًا» فهو هو، أمريكا فى كل الأحوال هى المرابى «شيلوك» بصورته الحديثة المتطورة، هى المرابى الذى يريد اقتطاع أرطال اللحم من جسد العالم، وفى الشرق جسد على أتم الاستعداد لتقطيع لحمه، أذكر الآن وأنا أكتب هذه السطور مقالة كتبها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل عن أمريكا قال فيها ـ وفقما بقى فى ذاكرتى من أفكار هذا المقال ـ عبارة صارخة موحية، هى «أمريكا ليست دولة بالمفهوم الذى نعرفه للدول والأمم ولكنها شركة استثمارية كبرى، تدير نظامها بعقلية التاجر الرأسمالى الكبير» لذلك فإن خطوات أمريكا فى السياسة لا تبحث إلا عن الربح، ولا تتجنب إلا الخسارة، فكيف ستكسب من سياسة تقسيم الشرق وتقطيع لحمه؟

كانت طريقة الاستفادة واضحة فى المجلدات التى احتوت على نبوءات أمريكا «الدولة الراسبوتينية» إذ ورد فى مجلدات النبوءة «أن النظام المالى والاقتصادى العالمى يحتاج إلى إصلاح كامل بما يضمن وقوع قطاعات دواليبه الرئيسة، مثل الطاقة وتخصيص الأموال والطعام، تحت إدارة عالمية واحدة، على أن يتولى الإشراف على تلك الآلية المستحدثة - فريق من المديرين التجاريين المستقدمين من شركات النفط متعددة الجنسيات والبنوك الأنجلو أمريكية، وتهدف إعادة التنظيم على الوجه المذكور إلى القضاء على مفهوم الدولة ـ الوطن ـ وخلق مفهوم آخر يقوم على إشراف عالمى موحد يكون فى يد الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولى» الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولى! هما فى الحقيقة جهات مخلوقة من رحم أمريكا الشيلوكية.

«ولكى يتحقق مفهوم الإشراف العالمى يجب أولاً تقسيم العالم إلى مناطق أو تكتلات منفصلة ذات عملات إقليمية، ويتولى صندوق النقد الدولى مهام الإدارة الاقتصادية لهذه المناطق، ويجب عليه أن يفرض شروطه، ولكى يستطيع فعل ذلك ينبغى أن يدخل عالم الشرق الأوسط فى أزمات اقتصادية طاحنة تستنفد موارده وثرواته، حينئذ تكون لصندوق النقد الدولى سيطرة شبه مطلقة على تدفق العملة الأمريكية والأوروبية، ولن يتم ذلك إلا إذا تم تقسيم دول الشرق إلى مناطق صغيرة متحاربة.»

استطردت النبوءة الراسبوتينية فى شرح النتائج، فقالت «سينشغل العالم الشرق أوسطى بنفسه، وسيندمج فى صراعاته، ولن يلتفت لتطوير نفسه وتحديث معارفه، وسيعود حتمًا للوراء عشرات السنين، وبذلك سيظل فى حاجة شديدة إلى دعم أمريكا له عن طريق مؤسساتها، وسيظل تابعًا ذليلاً لا يستطيع أن يبرم أمرًا إلا من خلالنا، وسنضع الرؤساء ونستقدم الحكام كما نشاء، وسيجبرهم صندوق النقد الدولى على اتباع السياسات الاقتصادية التى نريدها، وتتوقع دراسات البنك الدولى ووثائق صندوق النقد الدولى الرسمية أن الأثر المترتب على هذا البرنامج سيتمثل فى انخفاض حاد ومفاجئ فى أعداد السكان بدول العالم الثالث، وفى هذا الإطار، يتوقع «التقرير العالمى» الصادر برعاية وزارة الخارجية الأمريكية - بل ويقر - أن هذه السياسة حين يتم تنفيذها على مستوى العالم ستؤدى إلى انخفاض بنحو ٣ مليارات نسمة من تعداد السكان العالمى بحلول عام ٢٠٠٠».

■ قيادى سابق.. بجماعة الإخوان المسلمين