رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: البحث عن القاهرة فى «التجمع الخامس»


قابلينى يوم فى أول المنيل
فى خمسة سبتمبر سنة تلاتين
..
قابلينى تحت الرَبْع فى القلعة
فى جامع السلطان حسن شمعة
وفى الرفاعى مقام وناس مساكين
قابلينى عند تقاطع الألفى وعمادالدين
شَحَّاتة فى إشارة المرور
بتبيعى مناديل الورق ويس
هكذا يبحث الشاعر بهاء جاهين عن محبوبته فى حوارى القاهرة وأزقتها وحاراتها القديمة.. فى أضرحة الأولياء وأديرة الرهبان، يجوب هنا وهناك بحثًا عن رائحتها فى قصيدة طويلة اسمها «ست الحُسن»، وهكذا يمكن للشعراء والروائيين والمفكرين من ضيوف معرض القاهرة الدولى للكتاب أن يستمتعوا بزيارة مصر التى وضعوا لها تصورات وشموا رائحة شوارعها فى الأفلام والمسلسلات والروايات، وعندما قُدر لبعضهم أن يزورها ضيفًا على معرضها الدولى للثقافة والفنون والكتاب وجد نفسه حبيس الفندق وقاعات الندوات وأصبح مقهى زهرة البستان حلمًا يمكن تحقيقه قبل المغادرة!.
زرتُ معرض القاهرة للكتاب فى ثوبه الجديد وعشتُ لحظة نادرة الحدوث وأنا أشاهد السيارات والحافلات الكبيرة تصطف فى خطوط طويلة حول المكان الجديد الذى يليق باحتفال مصر بخمسينية معرضها الكبير، شىء بديع وإحياء لبقعة جديدة على أرض مصر بالثقافة والفنون، الشباب يملأون الطرقات والبنات الجميلات يتحركن بين جموع جاءت للكتاب ولم تأت للبحلقة فى خلق الله، المكان منظم بقدر كبير بحيث تسهل الحركة بين دور النشر وأماكن الأكل والمقاهى الشيك، اختفت بلا رجعة روائح الكشرى والمسبك والحواوشى المضروب التى كانت تستقبلنا من بوابة الدخول واختفت معها أصوات الميكروفونات التى تذيع القرآن الكريم بحناجر مخنثة قادمة من الصحراء بجلافتها وجهامتها، صحيح أن كثيرًا من اللخبطة والتوهان تصيب الزائر لأول مرة لكن الغربة تتبدد والأُلفة مع المكان تتحقق فى زيارات تالية، ولا تنسى أننا نعيش أول مرة معرضًا فى التجمع الخامس، ولا شك أن الذين سبقونا أخذوا وقتًا طويلًا فى تحقيق الألفة مع معرض القاهرة الدولى للكتاب فى مدينة نصر منتصف الثمانينيات.
إذن هناك مكاسب عديدة فى الانتقال لتعمير وإحياء منطقة جديدة بأهم معرض على مستوى العالم العربى للكتاب، ويتبقى لنا أن نحافظ على الجديد ونضيف إليه ما يحقق للزائر من المثقفين العرب والأجانب متعة زيارة القاهرة وليس معرضها وندواتها فقط، وما ذكرته فى بداية المقال عن شوارع القاهرة وحواريها وبهاء مساجدها وأضرحتها وأديرتها وكنائسها وأماكن إقامة الأدباء والفنانين المصريين واستعادة روائحهم لا بد أن يكون على برنامج الزيارة، وفى الجلسات السريعة التى جمعتنى بأصدقائى من الكتّاب والأدباء العرب لمست غياب هذا الجانب، فمعظمهم يصاب بخيبة أمل حين تمضى فترة الزيارة بين الاستيقاظ مبكرًا للندوات والبحث عن الكتب والتقاط الأنفاس على مقهى المعرض ثم النوم والاستيقاظ لأداء نفس السيناريو فى اليوم التالى وتجهيز حقائب السفر للمغادرة!، ربما لا ينجو من كل هؤلاء سوى مجموعة قليلة صنعت صداقات تسمح لها بتنفس هواء القاهرة والجمالية ومصر القديمة وأهرامات الجيزة، لكن الجميع يحتاج برنامجًا سياحيًا راقيًا يضيف للمبدعين جغرافيا جديدة كما قالت لى الروائية السورية «مها حسن» التى عاشت بسوريا، حيث ميلادها، وتنقلت بين باريس ولندن، وكتبت كثيرًا، لكنها الآن تريد القاهرة، تحلم بروائح الشوارع التى شكلت وجدان طفولتها فى أفلام الأبيض والأسود لفاتن حمامة وشادية وشكرى سرحان وهند رستم ورشدى أباظة وشكوكو وإسماعيل ياسين، الراوية تحتاج براح القاهرة وشاطئها الممتد حيث ثقافة المشّائين الكبار من الحكّائين الذين لفوا شوارعها وحفظوا جدران قصورها ومبانيها، ولدينا جيل جديد من الشباب الذين يمكن الاستعانة بهم لوضع برنامج يتيح للزائر أن يرى مصر من الإسكندرية إلى أسوان، ولأن ذلك لن يتحقق فى المعرض السنوى للكتاب، وفترة إقامته التى لا تسمح بكل ذلك، فيمكن وضع برنامج سياحى شهرى، بحيث تتمكن وزارة الثقافة من التفاوض مع الدولة لإقامة معرض الكتاب بصفة دائمة وبأسعار تناسب الناشرين القادرين على حجز صالات للعرض وتتمكن وزارة السياحة من الحصول على تخفيضات للفنادق المجاورة للمكان، ربما نفتح مجالًا أوسع للسياحة الثقافية، فهذا مجرد اقتراح لا يخلو من حماس رومانسى ورغبة فى تحويل هذا المكان الجديد إلى ملتقى للفنون والثقافة وعروض السينما والمسرح والفنون الشعبية، وأظن أن الجهود التى بُذلت لصناعة هذا المكان الجديد تستطيع استكمال الحلم بقليل من الإشادة والدعم، فكثير من الأحلام كان بعيد المنال وتحقق بالإرادة والرغبة فى النجاح والإيمان بقيمة مصر وتاريخها الحضارى، وإن كان المديح ليس من طبعى إلا أن الدكتورة إيناس عبدالدايم تستحق الشكر على ثقتها فى الشاعر هيثم الحاج على، رئيس هيئة الكتاب، الذى وضع ثقة كبيرة فى الشاعر شوكت المصرى الذى بذل مجهود الجبابرة، وتحمل الكثير من الهجوم والحملات الصحفية التى تنبأت بفشل المعرض قبل إقامته، فكان المعرض هدية عام ٢٠١٩، الذى يحتاج المساندة لقيمته وليس للأشخاص القائمين عليه، والتحية واجبة للشباب المتطوعين الذين ملأوا ساحات المعرض وقاعاته وكانوا نموذجًا يستحق التقدير.. وعاشت مصر بثقافتها وحريتها وسقط كل أعدائها وكارهيها.