رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السفر وراء الحكايات


المسألة بدأت بقرصة أُذن. كنت في الخطوات الأولى من مشواري مع الأدب والكتابة، أشخبط قصصاً قصيرة وبعض المقالات، أنشر بعضها في مجلة مهتمة بكتابات الشباب، وأحتفظ بالبعض الآخر دون نشر، غير إنني كنت أعرض كل ما أكتبه على أبي رحمة الله عليه، فقد كان رجلاً ذو ثقافة موسوعية ويتمتع بذائقة جيدة للأدب.

كتبت حينها، في 1999 أو 2000 قصة قصيرة عن شجار ينشب في موقف ميكروباصات بين لص سرق حقيبة يد من إحدى مرتادات الموقف، وبين شاب يستعين بعكّاز في حركته. كانت محاولة أخلاقية لإبراز الجمال الداخلي على حساب الجمال الظاهر، وهذا ليس موضوعنا، فموضوعنا الحقيقي هو أنني جعلت موقف الميكروباص ذلك يقع في حي الزمالك.

بعد أن قرأ أبي القصة، وطلب مني أن نتناقش في محتواها، وأشاد بما رآه جيداً فيها، بعدها وجدته يمسك بشحمة أذني بين أصابعه ويفركها كعقوبة رمزية.. وهو يقول: "مفيش موقف ميكروباصات في الزمالك يا أحمد. لو ماتعرفش يا تسأل يا تنزل وتشوف بنفسك".

فكّرت كثيراً في نصيحة أبي، ووجدت أنه محق، وأنني لا يجب أن أندفع وراء الكلمات وغواية اللغة وطرب المجازات لأجعل من اللغة والكلمات والحروف بديلاً غير محايد ولا نزيه للمعلومات والرافد المعرفي في النص.

وبعد نحو عشر سنوات من تلك الواقعة، كنت أستعد لسفرتي الأولى، وراء الكتابة والمعلومة والحكاية، وكنت على موعد لزيارة العاصمة السورية دمشق في ربيع 2010.

مغامرات جبل قاسيون
دخلت في جمعية ورحت أدّخر لمدة سنة كاملة، جمعت منها مبلغ خمسة آلاف جنيه، وفي تلك السنوات كان هذا المبلغ كافياً لتسافر إلى مدينة قريبة كدمشق وتقيم لمدة عشرة أيام. وهذا ما فعلته.
كنت في تلك الأيام أسعى لملء الفراغات في روايتي الثانية "أوجاع ابن آوى" التي ستصدر لاحقاً في 2011، وكان أحد الأبطال سورياً، واقتضت الأحداث أن أحمل أبطالي كلهم من ضاحية 6 أكتوبر في الجيزة، إلى منطقة مخفر العمارة في دمشق القديمة.

أجريت اتصالاتي وحجزت غرفة للإقامة في نُزل بلدي له فناء تتوسطه نافورة (بحرة) مثل تلك التي نراها في المسلسلات السورية، أدركت منذ وطأت قدمي ذلك المكان أنني وُفِّقت مبدئياً في اصطياد فضاء مكاني ملهم. وعليه فقد حللت ضيفاً على نُزُل البيت الشامي.

في سوريا تعرّفت على الكثير من الأصدقاء وقابلت بعض الكتّاب وطفت في دمشق من أقصاها إلى أقصاها، ذهبت إلى باب توما وملعب العباسيين وسوق الحميدية وجبل قاسيون والمرجة... وفي إحدى تلك الجولات وكنت برفقة صديق جزائري، قررنا أن نشرب كوبين من الشاي على قمة جبل قاسيون لنستمتع بمنظر دمشق من علٍ.

يقول الروائي الأمريكي بول أوستر، إن الحكايات تحدث فقط لأولئك القادرين على أن يحكوها.. في البداية كنت أظن أن تلك المقولة نوع من المبالغة الرومانسية الأمريكية، لكن رحلة جبل قاسيون مع صديقي الجزائري أثبتت لي صحة مقولة أوستر، فالذي حدث أننا شربنا الشاي، وعندما حانت لحظة مغادرتنا، فوجئنا بفاتورة تقدر بخمسة ألاف ليرة سورية، وهو رقم كبير للغاية يكفي لشراء ألف كوب من الشاي على أقل تقدير. طبعاً اعترضنا على المبلغ والفاتورة، وهنا بدأت الألاعيب، حيث اختفى النادل وجاء مكانه قبضاي ليحاسبنا، قبضاي حقيقي له لحية كثة ويعلق حول معصمة شريطة سوداء مطعّمة بكرات معدنية صغيرة، والأدهى أنه طلب مننا أن نصحبه إلى المطبخ لنتمم الحساب! وهو الأمر الذي أثار ريبتنا وجعلنا ندرك من فورنا أننا نتعرض لعملية سرقة واضحة.

شرحنا للرجل أننا مصري وجزائري ادخرنا واقترضنا لنستطيع زيارة الشام، ساومناه وماطلناه ولما مل قام بتخفيض المبلغ إلى أربعة آلاف وخمسمائة ليرة.

دفعنا 4500 ل.س نظير كوبين من الشاي وبعض المقبّلات. خرجت مع صديقي وغصة تكاد تمزقني من الداخل. لقد سرقنا هؤلاء الناس ونهبونا تماماً. استوقفنا تاكسي وركبنا صامتين مقهورين، حتى أن السائق لاحظ وجومنا، وكان هذا السائق مفتاح الفرج، إذ أنه توقّف في الطريق الهابط من الجبل أمام سبرتاية لرجل عجوز يبيع الشاي، اشترى السائق لنفسه كوباً وعاد ليكمل بنا المشوار. أردت أن أعرف حجم خسارتي فسألت السائق: "بكم الشاي يا حجّي؟" فأجاب دون أن يلتفت لي: "خمس ليرات".
تعاظم الشعور بالقهر داخلي، وحكيت للسائق، الذي قال أن الحل هو شرطة السياحة. وهكذا نزلنا من الجبل إلى مقر شرطة السياحة وقدمنا بلاغاً بالواقعة، وفي اليوم التالي أرسلونا إلى الجبل رفقة سيارتين مليئتين بالجنود والضباط وموظّفي وزارة السياحة، حيث داهمنا المطعم القاسيوني، وقد رأيت بنفسي الذعر في عيني صاحب المطعم والقبضاي الذي حاسبنا بالأمس، لقد انقلبت الآية، وصار صاحب الأرض غريباً وصرت أنا سيد الموقف وسط القوّات السورية.

قدّم صاحب المطعم وجبة الغداء للكتيبة كلها، وظل طوال الوقت يقدم اعتذاراته لي ولصديقي الجزائري، ثم حانت لحظة الحساب، فأتي الرجل بقائمة الأسعار المعتمدة من وزارة السياحة، وأتينا بالفاتورة، وكانت القيمة الفعلية لطلباتنا مائتي ليرة سورية فقط لا غير، وهي أسعار سياحية بطبيعة الحال، إلا أنها كانت في المتناول.

ظل صاحب المطعم يتوسّل لنا لنتنازل عن الشكوى، وإلا سيكون مضطراً لدفع غرامة هائلة تتجاوز الألفي دولار، وقال رجال الشرطة إن التنازل أو عدم التنازل حق خالص لنا وإن حثّني أحدهم على التسامح. لكن صديقي الجزائري ذو الدم الحار ظل يشير إلى أنفه ويقول بلهجته المميزة: "النيفة ياخويا". أي الأنفة وعزة النفس والكرامة. ورفض التنازل حتى لو تنازلت أنا.

منذ تلك الواقعة في جبل قاسيون، واظبت على السفر وراء الكتابة، ومطاردة الحكايات.

*مجتزأ من شهادتي المنشورة في الكتاب الجماعي "من وحي رحلة" الصادر 2019 عن دار "فانتازيون" ومبادرة "لأبعد مدى". جمعه وأعدّه: ياسين أحمد سعيد.