رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بل «تريليون دولار» وكسور!


فى الحوار البائت (البايت)، الذى أجرته شبكة cbs الأمريكية، فى سبتمبر ٢٠١٨، وعرضت مقتطفات منه، فجر الإثنين الماضى، اعتقد مقدم البرنامج سكوت بيلى، أنه سيوجه ضربة قاضية، حين ذكر أن قواتنا المسلحة لم تتمكن، إلى الآن، من القضاء على الإرهاب فى سيناء، مع أن مصر تحصل على مساعدات عسكرية أمريكية تزيد على المليار دولار سنويًا. غير أن قبضة ذلك التافه (أو بضاعته) ارتدت إليه، حين سأله الرئيس عبدالفتاح السيسى: ولماذا لم تستطع الولايات المتحدة القضاء على الإرهاب فى أفغانستان طوال ١٧ عامًا، أنفقت خلالها تريليون دولار أمريكى؟!.
التريليون، Trillion، يساوى مليون مليون أو ألف مليار، وتتم كتابته بوضع ١٢ صفرًا على يمين رقم «واحد». وغير التريليون دولار، التى ذكرها الرئيس، هناك «كسور» أو عشرات المليارات، قدرّها نيال مكارثى بـ٧٠ مليارًا، فى تقرير نشرته مجلة «فوربس» الأمريكية، فى ٢٤ أغسطس ٢٠١٧، ما يعنى أن إجمالى خسائر الولايات المتحدة فى أفغانستان تجاوزت التريليون و٧٠ مليار دولار، بكثير. وعليه، تكون الأرقام التى وردت فى التقرير الذى نشرته هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، الأربعاء، غير دقيقة. بالضبط، كتقديرات وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، التى زعمت أن حركة طالبان تسيطر على ٢٠٪ من أفغانستان، وتتنازع على ٢٢٪، بينما أكد تقرير نشرته جريدة «نيويورك تايمز»، أن بعض الولايات التى تزعم الحكومة الأفغانية سيطرتها عليها، لا تزال عمليًا وواقعيًا، تحت سيطرة حركة طالبان.
تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية ذكرت، أيضًا، أن مقاتلى طالبان يتراوح عددهم بين ٢٠ و٤٠ ألفًا، مقابل ٣٥٠ ألفًا هو عدد أفراد القوات الأفغانية، المدعومة بأحدث الأسلحة وبقوات أمريكية وأخرى متحالفة، كان عددها ١٤٠ ألف جندى، قبل أن ينخفض إلى حوالى ١٤ ألف جندى. ومؤخرًا، أعلن الرئيس الأمريكى أنه سيسحب نصف هذا العدد (أى ٧ آلاف جندى) بهدف خفض النفقات الخارجية. ومع أن الولايات المتحدة أنفقت عشرات المليارات على تجهيز وتدريب تلك القوات، إلا أن حركة طالبان لم تتوقف عن شن الهجمات فى كل المناطق، بما فيها العاصمة كابول، وأثبتت معاركها الأخيرة عدم قدرة الجيش الأفغانى على الاحتفاظ بالمناطق التى يسيطر عليها، بل وصل الأمر إلى حد قيام قوات طالبان بإبادة وحدات كاملة منه فى معركة (أو معارك) قندوز، التى انتهت بسيطرة الحركة على تلك المدينة بالكامل.
كان مبرر أو «تلكيكة» الغزو الأمريكى، قيام الحركة بتوفير ملاذ آمن لتنظيم القاعدة الذى تم اتهامه (وأعلن مسئوليته) عن هجمات الحادى عشر من سبتمبر ٢٠٠١، ومع أن القوات الأمريكية، بمشاركة القوات التى تحالفت معها، أطاحت بحكم طالبان، فى ٧ أكتوبر ٢٠٠١، إلا أن الحركة لا تزال تقاتل إلى الآن، وقيل فى تفسير أو تبرير ذلك أن الترابط القبلى على الحدود الأفغانية الباكستانية أتاح لمقاتلى الحركة الانسحاب إلى باكستان وإعادة تنظيم صفوفها، وتوالت ظهور التفسيرات أو التبريرات حتى وصلت إلى مرحلة اتهام روسيا بدعم طالبان والقاعدة، مع أن مقاتلى طالبان والقاعدة، أو القيادات على الأقل، اكتسبوا خبراتهم ومهاراتهم القتالية خلال مشاركتهم فى حربهم ضد الاتحاد السوفيتى، التى قامت الولايات المتحدة، خلالها، بدعم وتدريب وتمويل من كانوا يوصفون بـ«المجاهدين الأفغان»!.
لولا تلك الخبرات، ولولا الدعم والتدريب والتمويل الأمريكى، ما استطاع هؤلاء الصمود أمام القوات السوفيتية، وما استطاعت حركة طالبان السيطرة على أفغانستان، قبل مرور أقل من سنتين على ظهورها. وبالتالى، يكون من سخريات القدر ومساخره، أن تجد الجنرال جون نيكولسون، قائد القوات الأمريكية فى أفغانستان، يتهم روسيا، أواخر ٢٠١٦، بإقامة اتصالات مع طالبان، زاعمًا أن الأسلحة الروسية يتم تهريبها إلى الحركة عبر طاجيكستان. غير أن جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأمريكى (السابق) شكك فى هذه الاتهامات أمام الكونجرس، وقال فى مايو ٢٠١٧، إنه لا توجد أدلة ذات قيمة عليها. ثم عاد ريكس تيلرسون، وزير الخارجية الأمريكى (السابق)، بعد شهرين، أى فى يوليو ٢٠١٧، ويكرر اتهام موسكو بدعم وتسليح طالبان!.
بعد التريليون وكسور تزيد على ٧٠ مليار دولار، وبعد مقتل آلاف الجنود الأمريكيين، الحلفاء، والأفغان، وبعد إصابة عشرات الآلاف بتشوهات وإعاقات دائمة. بعد ذلك كله، لا توجد مؤشرات على نهاية تلك الحرب أو اقتراب تلك النهاية. بل هناك تأكيدات على أن الحركة صارت فى وضع أفضل، وأنها قادرة على الاستمرار وعلى تحقيق المزيد من المكاسب على الأرض. والأكثر من ذلك هو أنها ترفض الدخول فى مفاوضات سلام أو إجراء مصالحة مع الحكومة الأفغانية، وتصر على أن تكون المفاوضات مع الجانب الأمريكى، بشكل مباشر، وأن يكون أول بنودها هو بحث انسحاب القوات الأجنبية، الأمريكية، أو غيرها!.