رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: اللسان المُر.. فى محبة عبدالوهاب الأسوانى


فى منتصف السبعينيات، عرض التليفزيون المصرى على قناته الأولى مسلسلًا بعنوان «اللسان المُر»، لم يكن اللسان يشغلنى فى شىء، ولم يكن عقلى قادرًا على استيعاب الأحداث التى تدور حول الثأر والقتل ومؤامرات الرجال الكبار، كان يشغلنى الخوف من أن يأتى الدور على شخصى الضعيف، فالسيد الوالد الذى أصبح فى بيته تليفزيون تعلّق بالحلقات والأبطال، ولن يفرّط فى متعته التى جاءته على كِبَر وبعد سنوات الشقاء والألم، والتليفزيون يحتاج كهرباء، والبلد لم تدخله الكهرباء بعد! وحتى بعد دخولها ظل انتظامها مستحيلًا، ولم تتوقف البيوت عن تجهيز الكلوبات واللمبات الفلاحى تحسبًا لانقطاع مؤكد كل ليلة! والبطارية هى البديل الذى يضمن للسيد الوالد تشغيل «اللسان المُر».
الشخص الوحيد الذى يشحن البطاريات يقيم على أطراف القرية، والحمار هو وسيلة الانتقال، والبطارية ستُشحن بماء النار، وأى نقطة تنزل منها تحرق مكانها على الفور، وما أدراك ما مكانها! لذا، لا بد من تأمين ما بين الفخذين بقطع قماش وخرق قديمة، ويظل الرعب مسيطرًا والطرق بها منحدرات، ومع كل حركة للحمار إنذار بكارثة قد تقع.. أشقائى الكبار كانوا يقومون بالمهمة بالتناوب فيما بينهم، وظللتُ أنا احتياطيًا باعتبارى الأصغر، حتى تم استدعائى لخوض هذه المغامرة، ولم يكن فى استطاعتى الرفض أو حتى إظهار خوفى حتى لا تنهال قبضة السيد الوالد على أم رأسى، ولم ألعن «اللسان المُر» وسنين اللسان المُر، كما لعنتهما صبيًا دون العاشرة، بينما تهتز البطارية فى كل منحدر.
ضحك عبدالوهاب الأسوانى، عندما رأيته للمرة الأولى بصحبة الصديق خالد إسماعيل، وأنا أقصّ عليه طرفًا من قصة حضوره فى وجدانى منذ الصغر، فقد كبرنا وعرفنا أن هذا الرجل هو الروائى والكاتب الذى رسم كل الشخصيات التى رأيناها على الشاشة المبهرة قادمة من قلب الصعيد بجلابيبها وصراعاتها، حيث عادات القبائل التى تحول دون استمرار قصة حب بين شاب وفتاة يمثلان الجيل الصاعد والأكثر كراهية للدم والقتل والتناحر بين البشر، فما بالك والدم المسفوح كل ليلة هو دم العائلة!.
وإذا كان صعيد مصر متعدد الطبائع والسلوكيات والعادات ليس قطعة واحدة، فإن الأسوانى اختار منطقة خاصة به تمتد إلى ما بعد جنوب قنا، فقد عرفنا الصعيد حتى أسيوط وقنا فى أعمال مستجاب وإدوار الخراط ويحيى الطاهر عبدالله، لكن هذه المنطقة الممتدة من جنوبى قنا إلى أسوان لم يطرقها سوى عبدالوهاب الأسوانى، فهى تختلف فى طباعها وسلوكياتها لانتشار القبائل واختلاط التقاليد العربية بأعراف الفلاحين وعاداتهم الراسخة منذ آلاف السنين، إنه عالم مغلق له قوانينه التى لا يجرؤ أحد على خرقها، فالنساء هن الحارسات، وإطاعة أوامرهن ليست ضعفًا، حتى الغناء فى المواسم والأفراح يختلف من قبيلة إلى أخرى، ومن موروث المصريين الشعبى إلى صليل الخلاخيل والسيوف فى الرقص البدوى.
لم يتفرد عبدالوهاب الأسوانى بتلك المنطقة التى كتب عنها معظم أعماله «مملكة المطارحات العائلية، سلمى الأسوانية، للقمر وجهان»، لكنه تفرّد برصد متغيراتها وسقوط أخلاقياتها وصعود طبقات جديدة ظهرت فى قصص مجموعته «شال من القطيفة الصفراء»، كما لاحظ ذلك الناقد الراحل فاروق عبدالقادر، حيث يعود البطل فى قصة «عودة المهاجر» إلى أسوان بعد غياب طويل، وفى القطار يتحدث إلى رفيق سفره عن مصر وعراقتها، ويذكر أن هيرودوت زار مصر أواخر العصر الفرعونى، وقال إن الشباب الذين يجلسون فى الطريق العام يقفون فى الحال كلما مرّ عليهم رجل كبير السن، ولا يجلسون إلا بعد أن يتجاوزهم.. لكنه عندما يهبط من القطار يجد نفسه غريبًا: «تخيلت أننى هبطت فى محطة أخرى، سيارات من مختلف الأنواع والأحجام كأننى فى أحد الأحياء الشعبية القاهرية، بما فى ذلك الحفر والمطبات وأكوام النفايات، ولولا المسجد والكنيسة والمعابد الفرعونية التى تعرفنى وأعرفها لما صدقت أننى فى البندر الذى تتبعه قريتى».. وتقدم منه شاب يطيل سوالفه على طريقة «الهيبز»، وحين انحنى ليحمل عنه الحقيبة رأى على بنطلونه الجينز مستطيلًا أزرق يحمل العلم الأمريكى بنجومه المرصعة.
عاش عبدالوهاب الأسوانى، كما يليق بمبدع كبير، منعزلًا عن الصراعات والأحقاد والمعارك الصغيرة، والذين لم يسعدهم الحظ بملاقاته سيجدون كثيرًا من صفاء روحه وابتسامته فى ابنه الكاتب والصديق سامح الأسوانى، الذى عاش رفيقًا وصديقًا ومريدًا فى رحاب والده، رحمه الله رحمة واسعة.. لا تحزن يا صديقى، فقد عاش أبوك كريم النفس فياض المشاعر مبدعًا لا يموت.