رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «6».. اعتقلت فى ١٩٤٢ بسبب اتصالاتى مع الألمان للتخلص من الاستعمار الإنجليزى.. وتعرضت للفصل من الجيش

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

فى أواخر عام ١٩٤١ صدرت إلينا الأوامر بالنزول من مرسى مطروح، وأذكر أن كتيبة عبدالناصر كانت على مقربة منا فى جهة اسمها الحمام.. ولكنه لم يكن فيها.. كان فى السودان ولم يعد منها إلا فى ديسمبر سنة ١٩٤٢.. فى القاهرة أخذت فرقة للترقى وفى أثناء عملى بالفرقة داومت نشاطى السياسى فى بناء تنظيم الضباط الأحرار.
كان ذلك فى أوائل سنة ١٩٤٢ وقد وصل روميل إلى ليبيا مع فرق البانزر «الدبابات» الألمانية وكان الشعور العام فى مصر معاديا للإنجليز وبالطبع فى صف أعدائهم.. وكان الإنجليز يعلمون ذلك.. فطلبوا من فاروق فى فبراير ١٩٤٢ أن يكلف النحاس زعيم الأغلبية بتشكيل الوزارة أملا منهم فى استمالة الرأى العام المصرى.. ولكن فاروق رفض فما كان من السفير البريطانى لورد «كيلرن» إلا أن حاصر قصر عابدين بالدباباب يوم ٤ فبراير ١٩٤٢ فإما أن يستجيب فاروق لمطلبهم أو يتنازل عن العرش.. وأمام هذا التهديد استدعى فاروق النحاس وكلفه بالوزارة.
كان ذلك فى ٤ فبراير سنة ١٩٤٢.. تاريخ لا ينساه جيلنا.. ففى ذلك اليوم سقط النحاس فى نظرنا.. إذ كيف يقبل أن يفرضه المستعمر على البلد بقوة السلاح؟ فتجمع الضباط بالقاهرة وسرنا إلى قصر عابدين تحية للملك الذى خرج لرد التحية.
لم نكن بطبيعة الحال راضين عن فاروق، ولكن ما حدث كان إهانة لمصر جيشا وشعبا واعتداء على سيادتها بصرف النظر عن شخص من يمثل هذه السيادة.. لذلك عندما سمعنا أن «كيلرن» قد وجه إنذارا ثانيا إلى فاروق إثر حادث وقع فى مطار القاهرة بعد أيام من حصار عابدين جرحت فيه كرامة إنجلترا.. اتفقنا نحن الضباط الأحرار أن نحيط بالقصر الملكى ونشتبك مع الإنجليز لو حاصروا القصر بدباباتهم مرة أخرى.. ومن ثم استعرت عربة زكريا محيى الدين، وكان الوحيد بيننا الذى يملك عربة خاصة ورحت أطوف بها حول القصر طوال الليل أرصد الحركة من قريب ومن بعيد لأنذر إخواننا لو حدث ما كنا نتوقعه.. ولكن الليل انقضى دون أن يحدث شىء فرجعت بالعربة فى الصباح المبكر وأعدتها لصاحبها.
كان الشعور العام ضد الإنجليز يزداد يوما بعد يوم إلى أن أتى الصيف وحطم روميل الجيش الثامن البريطانى ووصل إلى العلمين وهى تبعد ٧٠ كيلومترا عن الإسكندرية.. وهنا كشف المصريون عن شماتتهم فى الإنجليز فخرجت المظاهرات تنادى «إلى الأمام يا روميل»، فقد كانت الجماهير ترى فى هزيمة الإنجليز الطريق الوحيد لخلاص البلاد منهم.
وأصاب الإنجليز الذعر فراحوا يحرقون وثائقهم وأوراقهم ويرحلون رعاياهم والموالين لهم إلى السودان.. فبعد أن سقطت العلمين فى يد روميل أصبح الطريق أمامه مفتوحا لغزو مصر.
لم يكن هناك أى شك فى أن روميل سوف يواصل سيره إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة.. المسألة فقط مسألة وقت ووقت قصير أيضا.
وكان مقررا أن تكون مصر من نصيب إيطاليا، وأن موسولينى قد جهز بالفعل حصانا أبيض ليدخل القاهرة على ظهره، كما كانت العادة أيام الإمبراطورية الرومانية.
اجتمعت مع إخوانى فى تنظيم الضباط الأحرار وقلت لابد من عمل شىء.. فكيف نترك روميل يغزو مصر بدون أى مقاومة؟ اتفقنا على أن نرسل أحدنا إلى روميل فى العلمين ليقول له إننا مصريون شرفاء وإن لنا تنظيمنا داخل الجيش ونحن مثلكم ضد الإنجليز وعلى استعداد لكى نجند من بيننا فرقا كاملة تحارب إلى جانبكم وأن نزودكم بصور جميع خطوط ومواقع القوات البريطانية بمصر، وفوق هذا كله فنحن نتكفل بألا يخرج عسكرى إنجليزى واحد من القاهرة.. كل هذا مقابل أن تنال مصر استقلالها التام فلا تكون من نصيب إيطاليا أو تحكمها ألمانيا وألا يتدخل أحد فى شئونها الداخلية أو الخارجية بأى حال من الأحوال.
كانت هذه هى شروط المعاهدة التى أمليتها وحملها المرحوم الطيار أحمد سعودى على طائرة هرب بها من القاهرة إلى العلمين وأنا عندى ٢٢ سنة بعد أن عرضتها على إخوانى وحازت قبولهم، ولم يكن عبدالناصر معنا فقد كان فى السودان كما سبق أن أوردت.
وتعزيزا لحركة المقاومة وضمانا لتنفيذ بنود مشروع المعاهدة اهتديت إلى سوق الزجاج حيث اشتريت عشرة آلاف زجاجة أعددناها على هيئة كوكتيل مولوتوف. ثم قام بغدادى وحسن إبراهيم مع سعودى وحسن عزت بتصوير المواقع البريطانية بالطائرة ووضعنا الأفلام ومشروع المعاهدة فى حقيبة وعهدنا إلى سعودى بتوصيلها إلى روميل فى العلمين.
فى ذلك اليوم كانت طائرة حسن إبراهيم هى التى تحت الإنذار فأعطاها لسعودى الذى طلع بها كأنه فى دورية عادية ثم اتجه إلى العلمين.
كانت طائرة من طراز بريطانى طبعا يسمى جلادياتور، ولذلك فرغم إشارة الصداقة أطلق الألمان نيرانهم عليها فوق العلمين فانفجرت بسعودى وما فيها.
وعندما اكتشف فقدان الطائرة قدم حسن إبراهيم للمحاكمة وتأخرت أقدميته ولكنهم لم يتمكنوا من الكشف عما وراء الحادث من تنظيم.
فى ذلك الوقت كنت أعمل بسلاح الإشارة فى الجبل الأصفر بالقرب من القاهرة.. وكنت أنتظر إشارة من سعودى أو من الألمان ولكن طال الانتظار فبدأت أقلق.. فى هذه الأثناء حدثت مفاجأة لم أكن أتوقعها فقد أتى إلىّ زميلى حسن عزت ليقول إن ضابطين من الجيش الألمانى يريدان الاتصال بى للتعاون ففرحت وقلت هذه نجدة من السماء.
كان أحدهما واسمه «إبلر» من أم ألمانية متزوجة من مستشار مصرى أنجبت منه ولدا اسمه حسن جعفر.. كان حسن الخلق.. أما «إبلر» واسمه العربى حسين جعفر فقد طرده زوج أمه المستشار لسوء سلوكه بعد أن عاش فترة غير قصيرة من عمره فى مصر، ولذلك عندما التقيت به وجدته يتكلم العربية كأحد أبنائها.. أما الضابط الآخر زميله - وكان ضابط إشارة فلم يكن يعرف العربية إطلاقا.. سألتهما كيف دخلا مصر فعرفت أنهما تنكرا فى ملابس ضباط الجيش الثامن البريطانى ثم عن طريق طرق القوافل التى لا يعرفها إلا بدو الصحراء دخلا إلى الواحة الخارجة ومنها إلى أسيوط فالقاهرة.
فى القاهرة توجه إبلر ومعه زميله ساندى إلى ملهى «الكيت كات» يسهران ويعربدان ليلة بعد أخرى دون حساب، فقد كانت معهما كميات كبيرة من الجنيهات الإسترلينية المطبوعة فى اليونان.. ولفت البذخ الذى يعيشان فيه أنظار الجميع فأبلغت عنهما إحدى راقصات «الكيت كات».. ومنذ تلك اللحظة وضعا تحت رقابة المخابرات البريطانية.. كل هذا عرفته بعد ذلك.. أما عندما التقينا فلم أكن أعرف سوى أنهما يعيشان فى دهبية على النيل قرب «الكيت كات» استأجرتها لهما حكمت فهمى، إحدى فنانات ملهى بديعة مصابنى.. وأن معهما جهازا لاسلكيا ألمانيا ولكنه معطل.
ذهبت معهما إلى الدهبية لأرى الجهاز، فوجدت جهازين أحدهما ألمانى وهو المعطل وآخر أمريكى جديد تماما «hallicrafcersky challenger» وهو جهاز قوى تماما وممتاز، ولكن إبلر أخبرنى بأنه بعد عطل الجهاز الألمانى اتصل سرا بسفارة سويسرا التى كانت ترعى شئون ألمانيا فى مصر.. وأن القائم على هذه الرعاية وهو ألمانى قد أمدهما بجهاز لاسلكى أمريكى وجدت أنه أفضل بكثير من الجهاز الألمانى المعطل ولكن ليست عند الجاسوسين مفاتيح فاقترحت أن أشغله بمفاتيح مصرية..
ووافقا وبالفعل أخذت الجهاز معى وناديت «تاكسى» وضعته فيه وتوجهت إلى بيتى فى كوبرى القبة.
فى البيت جربت الجهاز فوجدته فى منتهى القوة والجودة.. وكنت سعيدا بذلك كل السعادة فأخيرا سنتمكن من الاتصال بروميل ونعرض عليه شروطنا التى سبق أن ضمنتها مشروع المعاهدة معه والتى بت أعتقد أنها لم تصله.. وإلا ففيم هذا الصمت وإلى متى نترك الأمور كما هى والوقت يجرى بسرعة، وروميل قد يدخل القاهرة فى أى لحظة وإذا حدث هذا دون اتفاق سابق ودون علم بوجود حركة مقاومة مصرية ضد الإنجليز ومدى ما يمكن أن يقدمه التنظيم له من مساعدات مقابل استقلال مصر فسوف يكون مصير البلاد استبدال الاحتلال البريطانى باحتلال آخر ألمانى أو إيطالى.. ونحن لا نريد هذا بأى حال من الأحوال..
لم يكن أمامى أى مخرج من هذ المأزق سوى الاتصال بروميل.. وها أنا أخيرا قد حصلت على وسيلة الاتصال بعد أن فشلت الوسيلة الأولى كما أصبح واضحا.
لم يبق أمامى إلا أخذ الجهاز إلى الورشة عندى فى الجبل الأصفر وأجربه تجربة نهائية ثم نبدأ الاتصال..
لم تكن عندى أى فكرة أن إبلر وزميله ساندى مراقبان.. ولذلك فوجئت فى الصباح عندما وصلتنى أنا وحسن عزت رسالة من عبدالغنى سعيد - وهو الأصل فى صلتنا بالجاسوسين- بأن إبلر وزميله قد قبض عليهما بمعرفة المخابرات البريطانية. كان لابد من إخفاء الجهاز فأخذته وذهبت مع حسن عزت إلى صديق له يسكن فى شبرا ولكن لسوء الحظ وجدنا بيته مغلقا وقالوا لنا إنه سافر إلى قريته فعدت بالجهاز إلى بيتى فى كوبرى القبة وأخفيته فى حجرة من الحجرتين اللتين كنت أشغلهما.. وفى نفس الليلة وصل زوار الفجر.. قرعوا الباب مرة.. مرتين.. عدة مرات حتى استيقظ أهل البيت..
وبعد فترة قضيتها فى الحبس وفى يوم ٢٦ رمضان سنة ١٩٤٢ قبل المغرب بساعة طلبنى رئيس أركان حرب قسم القاهرة، وأبلغنى أنه قد صدر النطق الملكى السامى بالاستغناء عن خدماتى.
خلعت الرتب.. وتقدم منى محمد إبراهيم رئيس القسم السياسى بالبوليس وقال:
- تعال معنا إلى المحافظة لعمل بعض الإجراءات.
فهمت أنهم بصدد اعتقالى فسألته:
- إلى أين نحن ذاهبون بالضبط حتى يعرف المراسلة أين أنا فيحضر لى طعام الإفطار؟ - فأجاب باختصار.. «سجن الأجانب».
وفى رمضان ١٩٤٢ عندما ألقوا القبض علىَّ مقابل جهودى للتخلص من الاستعمار الإنجليزى سرت إلى سجن الأجانب.
وطوال الطريق.. كان يرتفع أمام عينى طيف زهران وهو يسير رافع الرأس سعيدًا بما فعل لا يخشى الموت الذى سيلقاه.. بعد قليل.
لقد فعلت أخيرًا ما فعله زهران.. وإذ غامرنى هذا الشعور أدركت - كما لم أدرك من قبل - أن زهران لم ينهزم قط.. ورغم أنهم حكموا عليه بالإعدام إلا أن إرادته لم تمت.
ألم أكن أنا امتدادًا لهذه الإرادة، التى سرت فى كيانى منذ طفولتى؟ إرادة النصر والتحدى؟
بلغنا السجن، وإذ كنت أصعد السلم فى طريقى إلى حجرتى كان يغامرنى فرح غريب بما فى داخلى من قوة لا يدرك مداها سواى.
لقد انتصرت كما انتصر زهران من قبل.
رغم موته.. ورغم تجريدى من رتبتى واعتقالى.. رغم كل شىء.