رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فادية عبدالجواد.. ملاك الطب لمدة 20 عامًا في صمت

جريدة الدستور

نماذج عديدة تثبت لك كل يوم بأن العاجز ليس من فقد حاسة من حواسه أو عضو من أعضاءه بل هو من استسلم لليأس ولو بكامل أعضائه فاليوم نحن أمام نموذجا للتحدي والقدرة علي قهر الظروف والإصرار علي الوصول إلي الهدف إنها الدكتورة «فادية عبد الجواد» واحدة من هذه النماذج تعمل استشارى الأمراض الجلدية والتجميل، صاحبة حلم أن تكون طبيبة ولكن ما حدث لها وهي في الصف السادس الإبتدائي كان من الممكن أن يمنعها من تحقيق هذا الحلم ولكن العكس كان.

سردت فادية قصتها: كنت طفلة متفوقة جدا فى دراستى نجمة مدرستى فى الإذاعة المدرسية والأنشطة، إلى أن أصبت يوم 23 مارس سنة 1973 بمرض "الحمى الشوكية " على إثره دخلت فى غيبوبة لمدة ثمانية أسابيع، كانت كل حواسى مهددة بالفقدان، وبعد أن أفقت من الغيبوبة وجدت أهلى بجوارى شفاههم تتحرك وعلامات السعادة مرسومة على وجوههم، لكني لا أسمع شيئا، فى البداية شعرت أنها مزحة منهم، لكن فوجئت بوالدى يحضر لى ورقة وكتب فيها "أنت كان عندك حمى شوكية وفقدت حاسة السمع".

تكمل صاحبة الإرادة القوية: لم أصرخ وأبكي ولكني طلبت كتاب سلاح التلميذ لكي أذاكر ما فاتنى خاصة أن امتحان الشهادة الابتدائية كان على الأبواب، ورفض والدي والأطباء إرهاقي ببذل أى مجهود، خاصة أن حاسة البصر وبقية الحواس الأخرى كانت مهددة هى الأخرى بالفقدان، ولكني رفضت وصممت على تعويض ما فاتني، وأمام تصميمي أحضروا لي الكتب، وفشل والدي فى إقناع لجان الامتحان بعقد لجنة خاصة لى فى المستشفى رغم كل الشهادات التى قدمها.

خرجت من المستشفى للمدرسة وأديت امتحان الشهادة الابتدائية وحصلت على مجموع 95% وكانت النسبة التى فقدتها بسبب مادة الإملاء، حيث لم أستطع سماع المعلمة وهى تملي علينا قطعة الإملاء، لكنها عندما علمت بظروفي عرضت علىً أن أنقل الإملاء، ولكني رفضت لأننى متفوقة وأرى من المهانة أن أغش لأننى تربيت على مبدأ الحديث الشريف"من غشنا فليس منا".

تستكمل حديثها: كان عندى مشكلة أخرى وهى أن الحمى الشوكية أثرت على بعض مراكز الأعصاب، مما أثر على اتزان الجسم، إذ كنت لا أستطيع السير، أو الحركة بدون أن يسندنى أحد، ثم قررت أن أذهب للمرحلة الإعدادية دون الاستعانة بأحد، لذا قمت بتدريب نفسى لمدة أسبوعين على المشى وحدي داخل حجرتي، بعد هذه المدة فوجئ أهلى بأننى قادرة على الاعتماد على نفسى بدون مساعدة، فقررت أن أتقن لغة "الشفاه"، وبدأت أراقب حركة شفاه كل من حولى، وأشاهد أفلاما كثيرة، وتغلبت على هذه المشكلة فى الدراسة، وعلمت نفسى اللغة الانجليزية وأتقنها تماما قراءة وكتابة ولغة كما علمت نفسي اللغة الفرنسية وحصلت على الدرجات النهائية فى اللغات طيلة حياتي. المشكلة فقط كانت فى قراءة حركة الشفاه باللغة الانجليزية عند الامتحانات الشفوية فى كلية الطب، نجحت فى الثانوية العامة بمجموع 97% والتحقت بكلية الطب جامعة عين شمس، وهو كان حلم حياتى، فى الجامعة كان عندى ثقة شديدة فى نفسى بأننى لست أقل من أحد، بل تملكنى شعور بأننى متميزة عن الآخرين.

تمكنت الطبيبة أن تلغي من قاموس حياتىها كلمة "معاقة" التى تدعو للإحباط، وتأقلمت مع المحيطين بها، وكانت كل محاضرة فى كلية الطب بمثابة تحد جديد لها، وكانت ما تردد دائما بينها وبين نفسها أنا لست أقل من "طه حسين" أو "هيلين كيلر" الأديبة العالمية التى فقدت كل الحواس.

وأضافت: "كانت أسرتى تدعمنى بكل طاقتها، ولم يتعاملوا معى بمنطق الشفقة أو العطف".

ولم تحرمها إعاقتها من ممارسة حياتها كامرأة طبيعة وتحقيق حلمها في الزواج فقد تزوجت من مهندس مدني أثناء دراستها، وبعد تخرجها عملت استشارى أمراض جلدية وتجميل فى مستشفى "الدمرداش" وسافرت فى عدة مهام علمية للدول العربية والإفريقية، وعندما عادت إلى مصر فضلت العمل فى عيادتها الخاصة.

قررت إجراء جراحة زراع القوقعة بعد 33 سنة، وأرجعت السبب في ذلك "رغبة أبنائي في أن أسمع كلمة ماما، وكان أجمل يوم فى حياتي عندما أفقت على صوت ابنتي وهى تغني لي"من الحلم ده ما تصحنيش"، وهى اللحظة التى توقف عندها الزمن فى حياتى، تلك اللحظة التى اخترق قلبى صوت ابنتى، ساعتها لم أصدق نفسى وأنا أسمع صوت ابنتى، حيث اهتزت كل ذرة فى جسدى، وتمنيت فعلا ألا أستيقظ من هذا الحلم، لأننى لم أستعد "السمع" فقط ولكنى استعدت الحياة أيضا".

تتابع فادية حديثها عن قصة حياتها الملهمة قائلة: "فى سنة 2014 أكرمنى الله بزرع قوقعة فى الأذن الثانية بعد 44 سنة من "الصمم" خرجت من هذه العملية وقد استعدت الحياة بالكامل خرجت من عالم الصمت الكئيب إلى عالم الضوضاء المبهج والممتع، كل هذا دفعها الي تأسيس جمعية "السمع حياة فلنحيا" لمساعدة فاقدى حاسة السمع، وزارعى القوقعة وضعاف السمع قائلة (أمنية حياتى أن يعيش كل أصم وخصوصًا الأطفال تلك اللحظة الباهرة باستعادة السمع وزرع القوقعة وان توفر الدولة عملية القوقعة، وأيضا تأهيل الأطفال والتخاطب ليتمكنوا من الكلام بعد استعادة السمع وتوفير قطع الغيار والبطاريات وتحديث جهاز القوقعة وتعليم الأطفال ودمجهم فى المدارس وقبولهم فى جميع الكليات وتوفير فرص العمل لهم ليكونوا مواطنين صالحين منتجين وليس عالة على المجتمع.

وتشارك فادية أمنيتها عن الجمعية الخاصة بها "السمع حياة"، "أريد أن تصبح رمزا يساهم بقوة فى حل مشكلة الصمم تماما فى مصر بحلول عام ٢٠٣٠، وأدعو المسؤلين لدعم مبادرتي وتحويلها الى مبادرة قومية مدعومة من الدولة مثل الحملة القومية الناجحة للقضاء على الفيروسات الكبدية والتى أثبتت قدرة المصريين وإنجازاتهم المدعومة من الدولة والتى أبهرت العالم فكما نسعى للقضاء تماما على الفيروسات الكبدية بحملة قومية نحتاج الى تحويل مبادرة السمع حياة الى حملة قومية أيضًا لتقضي تمامًا على مشكلة الصمم وضعف السمع فى مصر".

واختتمت حديثها: "أقول لكل أم وكل أب لو عندك طفل من أصحاب القدرات الخاصة، لا تُشعره بأنه لا يوجد مستحيل".