رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

30يونيو.. مشاهد خارجية فارقة


التوازنات وضعت القاهرة من جديد نتيجة هذا الحدث المزلزل على مفرق القوى الدولية وعادت بحسن إدارتها لملفها الداخلى رقماً فاعلاً فيما يمكن أن يتم خلال الأعوام القليلة المقبلة.

منذ شهرين بالضبط كتبنا مقالين رصدنا فيهما حالة البحث الأمريكى لموقف الاضطرابات المصرية، ووضع الموقف العام فيها على مائدة البحث والمناقشات الأمريكية المعمقة لأسباب التعثر وارتباك نظام الحكم، وكان من أهم ما رصد فى حينه هو تحول مائدة البحث إلى فريقين يتبنى كل منهما وجهة نظر وملحوظات تقف فى وجه الطرف الآخر، رجال الإدارة الديمقراطية ومعهم وزارة الخارجية وممثلها فى مسرح العمليات «السفيرة آن باترسون» يدافعون عن دعمهم ومراهنتهم على نظام حكم الإسلام السياسى ممثلا فى جماعة الإخوان المسلمين، باعتبار أن هذه المراهنة تتوافق مع الخطط الاستراتيجية لمجلس الأمن القومى الأمريكى باعتماد نظام حكم تيار الإسلام السياسى كحليف رئيسى لفترة تتراوح بين الثلاثين عاماً التى تلى موجة التغير التى سميت بالربيع العربى، وجاء فى الطرف الآخر رجال الحزب الجمهورى ومعه كتلة من الكونجرس والبنتاجون يمثلون الرأى المعارض، وينتقدون بشدة هذا النوع من الدعم ولديهم شكوك عميقة نحو هذا التيار خاصة بعد تسجيل مجموعة من الخطايا وقع فيها نظام الحكم خلال فترة زمنية وجيزة.

أهم ما طرح من خطايا فى هذا التوقيت منذ ثلاثة شهور تحديداً أن نظام الحكم فى القاهرة ومع نجاحه فى تفعيل اتفاق هدنة ما بين إسرائيل ومنظمة حماس، إلا أنه انقلب بعده مباشرة إلى راعى لمجموعات إرهابية مسلحة فى المنطقة الحدودية بمنطقة شمال سيناء، وبدلاً من أن يكون مسيطراً على الأرض فى هذه المنطقة الحساسة تحول إلى رهينة فى أيدى تلك الجماعات يخضع لحسابات التوافق والمصالح المتبادلة، وكان لبروز منتجات تنظيم القاعدة وتطورها السريع تحت رعاية هذا الغطاء السياسى ما يقلب المعادلات خاصة مع تقييد أيدى الأجهزة الأمنية المصرية عن العمل فى أكثر من حادثة ناهيك عن التمدد وامتلاك زمام الأمور بمنطقة سيناء، وبامتداد هذا السياق عبر البنتاجون بوضوح عن قلقه الشديد من منهج التحرش الذى تقوم به منظومة الرئاسة فى مصر مع الجيش المصرى، وعبر ممثل البنتاجون عن شكوكه بوقائع سرد بعضها تفصيليا حول استهداف كيان الجيش المصرى ووضعه على مستوى العدو المستهدف من نظام الحكم وقد يكون بدأ بالفعل تنفيذ مخطط إضعافه وتفكيك إمكانياته معنوياً ومادياً، واعتبر البنتاجون هذه الخطط بمثابة عبور للخط الأحمر العسكرى فالجيش المصرى بعيداً عن نظام الحكم فى مصر هو مشارك رئيسى فى توازن معادلات القوة بالمنطقة ككل التى يرفض البنتاجون بوضوح العبث بها.

كانت هذه أهم نقاط الخلاف ما بين الفريقين واستمرت المساجلات حول قضايا أخرى أقل أهمية مثل الدعم المالى لنظام الحكم فى القاهرة وتبرير الفشل والإخفاق فى إدارة ملفات الحكم بحداثة التجربة واحتياجها لمزيد من الوقت والدعم الاقتصادى الذى قد يحسن من الصورة، وتعهدت الإدارة فى هذه الجلسات المطولة أن تعالج القضايا الأكثر أهمية بالضغط المباشر على القيادة فى مصر لعلاج مسألة الإرهاب ووضع مسالة الصراع المكتوم مع الجيش فى نطاقه الصحيح.

مرت الشهور الثلاثة ما بين هذه الاجتماعات الموسعة فى واشنطن وما بين 30 يونيو فى القاهرة ومرت معها الحوادث فى سرعة غريبة وتدافع غير متوقع من الكل، وخرج من هذه الترتيبات الأمريكية مجموعة من الرسائل إلى قصر الاتحادية بعلم الوصول أولها رفع يد النظام عن الجيش المصرى ورفض قطعى لأى مناورات قد تصيبه من جراء الخلط الدائر فى الساحة السياسية، وقد تراجع النظام بالفعل عن مخططاته التى كان يضع فيها الجيش على محك الاستهداف ليلحقه بمؤسسات الدولة التى تمت إصابتها بإصابات بالغة، ووصله رسالة وضع موقف صريح فى مقاومة الإرهاب المتنامى فى سيناء وهو ما فشل فيها النظام طوال هذه المدة، أو كان لتداخل مصالحة مع هذه التنظيمات ما جعله يفقد ملكة القدرة على تغيير موقفه منها فتوالت الإخفاقات والعمليات الفاضحة التى استهلكت من رصيد النظام وأججت فى الشارع حالة الضيق العارم، وصارت مسألة رعاية مؤسسة الرئاسة للجماعات المسلحة مما يتداول على الأرصفة وما يصرخ به فى جنازات الشهداء.

عندما داهم الجميع قارعة 30 يونيو وتجاوز فى تفصيلاته وحجمه كل من وضع له الخطط والترتيبات، ظهر بوضوح أن الوحيد الذى كان متسقاً مع الحدث ومدركاً له ومستعداً لمنحنى صعوده بكل الخطط والإجراءات اللازمة هو قيادة الجيش المصرى وحدها، ما يعنينا فى هذا المقام هو إلقاء الضوء على طبيعة التعامل من القيادة العسكرية مع الملف الدولى الذى يدخل بقوة فى أحداث تغيير لنظام حكم لها طبيعة ما حدث فى 30 يونيو.

بالطبع كانت التهمة الجاهزة لوصف إزاحة محمد مرسى عن الحكم هى الانقلاب العسكرى، وهى تهمة كريهة دولية الآن على مختلف المستويات وهو ما راهن عليه نظام الإخوان فى عدم إمكانية تدخل الجيش لحسم الموقف خشية وقوعه تحت وطأة هذا الاتهام، لكن قيادة الجيش فى جاهزيتها المسبقة للموقف كانت قد اختارت موعد التدخل بدقة ووضعت له اعتبارات حاسمة تضبط هذا التدخل، لذلك لم تنزعج كثيراً القيادة العسكرية وهى تواجه الضجيج والفزع الأمريكى المبكر لهذه الخطوة التى أربكت كل حساباتها وقلبت الأمور فى واشنطن رأساً على عقب، أكملت القيادة العسكرية الموقف بثبات أعصاب وهدوء مكنها من قلب الصورة فى غضون أيام قليلة فهى لم تعتمد أى خطوة انتقامية من النظام السابق وتركت أنصار الرئيس يمارسون احتجاجاتهم ويتواصلون مع العالم الخارجى حتى بأساليب متجاوزة دون تدخل خشن يفسد المشهد العام، وظهر امتلاك قيادة الجيش لكروت القوة التى تفاعلت على الفور فهى القوة التى تملك حراسة التغيير الذى عبر عنه الشعب فى الشارع وهى المؤسسة التى تملك التعامل مع المجتمع الدولى بشفافية دورها الشريف الذى كونته عبر تاريخها الطويل، فالمؤسسة العسكرية جاءها وقت حصاد السمعة التى دأبت على تنميتها طوال تاريخها الذى لم تتورط فيه فى أى صورة مشينة أو ملتبسة.

الارتياح العربى الخليجى السريع لهذا التغير الذى أنجزه الشعب المصرى وحيرة دول الاتحاد الأوربى فى عدم إمساكهم بأى تجاوز من الجيش وضع الجانب الأمريكى وحده فى مربع الرفض، وكان لمرور الوقت وحده كفيلا بسقوط كل أقنعة الإدارة الأمريكية التى راهنت على النظام الذى فشل فهوى شعبيا بثورة حقيقية.

■ كاتب ومحلل سياسى