رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرض محروقة ونفوس مجروحة 1

الدستور على الجبهة العراقية السورية.. خط المواجهة الأخير لـ«داعش»

الزميلة «شيماء جلال»
الزميلة «شيماء جلال» على الجبهة العراقية - السورية

«إيه بغداد والليالى وكتاب ضم أفراحنا وضم المآسى عبث الدهر فى بساتينك الغناء والدهر حين يعبث قاس فتصديت للغزاة وجابهت إذا هم مثل الجبال الرواسى».. هل كان يخطر ببال الشاعر المصرى الكبير أحمد رامى وهو ينظم تلك الأبيات فى بغداد كيف سيعبث الدهر ببساتينها وما سيفعله بأهلها؟.

عام مر منذ إعلان رئيس الوزراء العراقى السابق حيدر العبادى الانتصار على تنظيم «داعش» الإرهابى فى ديسمبر ٢٠١٧، وهو الخبر الذى أسعد الملايين، لكن هل انتصر العراق حقا؟.. قد يكون ما تحقق منجزا عسكريا هامًا، إلا أن ما خلفه التنظيم الإرهابى أشد خطورة من وجوده العسكرى على الأرض.

ترك «داعش» قنابل موقوتة من الطائفية والفكر المتطرف، وما هو أكثر إرهابا من الألغام المزروعة
بطول الأرض وعرضها ورسخ حالة بغيضة من العدائية وعدم تقبل الآخر بين مكونات المجتمع العراقى المعروف على مر تاريخه بالتعدد الطائفى والعرقى والمذهبى.
كما ترك جروحا مغروسة فى أرواح البشر يستلزم علاجها عشرات السنين، فهناك الآلاف من ضحايا جرائمه (تعذيب وقتل واغتصاب واستعباد)، وجيل كامل من الأطفال تشكل وعيه على مشاهد الدماء والرءوس المقطوعة والأشلاء المتناثرة، عاش تحت حكم «الخليفة أبوبكر البغدادى» فى القرن الواحد والعشرين. جيل لا يعرف شيئا عن الإنترنت وألعاب الأطفال بقدر ما يعرف أنواع الأسلحة والقذائف والكلاشينكوف وكيفية صنع العبوات المفخخة، ولا يسمع أصوات الطيور، لكنه يميز بين أصوات الطائرات والقذائف المختلفة.
وهناك نساء ثكلى لا يعنيهن هزيمة البغدادى ولا انتهاء خلافته المزعومة، لكنهن يحملن هم سد رمق الأطفال وإيجاد أقوات يومهم، بعضهن يسرن حاملات أطفالهن على ظهورهن بعد بتر أعضائهم وكأن ما يحملنه من هم العيش لا يكفى. وهناك فتيات جميلات لم يعدن يحلمن بفارس الأحلام، فقد شربن من مرارة كأس الرق وعشن حياة الجوارى حتى كرهن الرجال والحياة بأكملها.
ناهيك عن أزمة انعدام ثقة الكل فى الكل، المواطن فى الحكومة، والحكومة فى الأحزاب، والأحزاب فى الجيش، حالة كاملة من التفكك المجتمعى تستلزم أعواما من إعاد بناء جسور الثقة بين جميع الأطراف.
ينتظر العراق معركة مجتمعية طويلة الأمد، لمحو آثار الاعتداء البربرى للتنظيم الإرهابى على الوعى الدينى والمجتمعى للمواطن العراقى، وإعادة السكينة والاطمئنان للنفوس القلقة، وهى معركة لا تقل عن إعادة إعمار المدن، التى دمرتها الحرب.
العراق ينتظر إعادة الثقة فى المنظومة العسكرية للبلاد بعد انسحابها فى ٢٠١٤ تاركة ٤٠٪ من مساحة الدولة تحت حكم «داعش»، ومواجهة خطر الخلايا النائمة للتنظيم التى تتحين الفرص لاستعادة نشاطها وتنظيم صفوفها واسترجاع أرضها المحروقة.


هل يتمكن تنظيم «داعش» من استعادة نفوذه فى العراق؟.. هذا السؤال الصعب يقلق المجتمع الداخلى والدولى، فهناك مخاوف رسمية وعسكرية من محاولات التنظيم استعادة بعض نفوذه فى العراق مرة أخرى خاصة بعد زيادة نشاطه فى معقله الأخير بالمناطق الحدودية السورية: «الحسكة، ودير الزور والرقة»، فهو الآن يحاول التقاط أنفاسه ليستعد للعبور إلى الجانب العراقى مرة أخرى.
هذا القلق دفع القوات العراقية على مدى الأسابيع الماضية إلى تعزيز انتشارها فى المناطق الحدودية مع سوريا، بعد سلسلة هجمات شنتها عناصر «داعش» ضد قوات سوريا الديمقراطية «قسد» فى المنطقة، حيث تشهد الجيوب المتبقية للتنظيم فى محافظة دير الزور مواجهات عنيفة مع هذه القوات. وأصبح «داعش» على الحدود العراقية فى تهديد جديد لمسافة ٢٦٨ كم من شمال منطقة الرمانة، وصولا إلى تل صفوك جنوب سنجار، التابع لمحافظة نينوى.
الرحلة من بغداد إلى الحدود العراقية مع سوريا طويلة ومجهدة، فعلى مدار يومين تنقلت بين المحافظات العراقية للوصول إلى منطقة تل صفوك العراقية التابعة لمحافظة نينوى، والمقابلة لعشرات القرى السورية الخاضعة لسيطرة تنظيم «داعش» فى محافظتى دير الزور والحسكة.
محطتى الأولى كانت مدينة الموصل التى اضطررت للمبيت بها لإكمال الطريق صباحا إلى مدينة سنجار الإيزيدية، وعلى طول الطريق يوضح الدليل بعض الأماكن الصحراوية التى يتركز فيها عناصر «داعش» ويشنون منها هجمات من وقت إلى آخر على القوات الأمنية، وقال الدليل إن الرعاة المنتشرين فى المنطقة يمدونهم بالطعام، خوفا أو تعاونا.
وتبعد بلدة سنجار عن مدينة الموصل، مركز محافظة نينوى، نحو ١٤٥ كيلومترا، ويعد ما يعرف بـ«قضاء سنجار» طريق الإمداد الرئيسى لـ«تنظيم الدولة»، لأنه يصل بين الحدود السورية ومدينة الموصل، ثانية كبرى المدن العراقية، التى سقطت فى يد التنظيم عام ٢٠١٤.
وصلنا لهذا الموقع الاستراتيجى بعد عبور صحراء واسعة، وسلكنا الطريق الممهد حتى سنجار لنلتقط الدليل من مستشفى «سنونى» حيث تنطلق السيارة بين دروب جبلية وعرة، وعلى الرغم من أن الطريق ممهد إلا أن تعرجاته بين الجبال وعرة وخطيرة، بينما يصل الدرب من جبل سنجار عبر عشرات القرى العراقية والكردية إلى منطقة الحدود عبر البعاج.
وتعد المنطقة بين البعاج والقيروان إحدى المناطق غير الآمنة، حيث يوجد فيها الخلايا النائمة لتنظيم «داعش»، ويتخذه التنظيم الإرهابى معبرا للجانب السورى، حيث يحد قضاء البعاج من الشمال والشرق سنجار والقيروان والحضر، ومن الغرب الحدود السورية، ومن الجنوب محافظة الأنبار.
على طول الطريق انتشرت كمائن عسكرية مرفوع بجوارها صور لشهداء المنطقة فى المواجهات مع التنظيم الإرهابى، وسارت أمامنا سيارة الدليل الإيزيدى المعروف لدى السيطرات الأمنية، وانتشرت قوات عراقية من الجيش والحشد الشعبى فى المناطق الحدودية وعلى امتداد جسر برى فى المنطقة الصحراوية، حيث ثبتت أسلاك شائكة.
قادنا الدليل حتى آخر نقطة للحدود بين العراق وسوريا بمنطقة تل صفوك، حيث تمركز اللواء الخامس لقوات الحشد الشعبى.
«صفوك» قرية كاملة لا تظهر بها معالم للحياة، فقط مجموعات من البيوت المهدمة التى فجرها التنظيم الإرهابى أو تهدمت أثناء عمليات القتال مع القوات العراقية.
وعلى الرغم من إحكام السيطرة الأمنية على المنطقة الحدودية إلا أن النازحين لم يعودوا مرة أخرى إلى منازلهم، فما زال شبح «داعش» يخيم على الجميع، ولا يفارق مخيلتهم مشهد أبرز قادة التنظيم عمر الشيشانى، مع الناطق باسم التنظيم آنذاك أبومحمد العدنانى، فى يونيو ٢٠١٤ قرب المعبر، وهما يزيلان الساتر الحدودى بين العراق وسوريا مع إعلان «خلافة» أبوبكر البغدادى.
على بعد كيلومترات قليلة من الحدود، تتجمع قوات اللواء فى أحد المنازل المهجورة كنقطة لمركز القيادة، وعلى طول الخط الحدودى تنتشر تمركزات للقوات المرابطة والسواتر الترابية. وخلف الساتر يتمركز عدد من الجنود يحملون أسلحتهم ويوجهونها فى اتجاه الحدود السورية.. أغلب الجنود من مدينة البصرة، وهى فى أقصى جنوب العراق.
يقول سجاد جواد، من أهالى البصرة، إنه يقبع فى مكانه هنا خلف الساتر الترابى منذ ٦ شهور مع وصول اللواء الخامس إلى نقطة تمركزه، حيث يبعد عن مدينته مسيرة يومين بالسيارة.
يتحدث «سجاد» عن الطبيعة المناخية للمنطقة، حيث تهاجمهم عواصف ترابية أو زخات من السيول، مؤكدا أنهم يتحملون تلك الظروف الصعبة: «كل شىء أهون من وحشية ذلك التنظيم الإرهابى».
يقول خلف خير الله، قائد عمليات اللواء الخامس، إن الشريط الحدودى العراقى السورى مؤمن بالكامل من قبل الجيش وشرطة الحدود وطوارئ الأنبار والحشد الشعبى وحشد عشائر الأنبار، الذى يمسك من أطراف قضاء القائم غربا صعودا إلى منطقتى البوكمال والباغوز، باتجاه منطقة طريفاوى وتل صفوك المرتبط بقيادة عمليات نينوى.
وأشار إلى أن مديرية العمليات المركزية فى الحشد الشعبى قد أعلنت حالة التأهب على الحدود العراقية السورية عقب سقوط مواقع تابعة لقوات سوريا الديمقراطية فى يد تنظيم «داعش».
وسيرت هذه القوات دوريات لعربات مدرعة بين المواقع العسكرية عند الحدود، فضلا عن انتشار جنود مسلحين يصوبون بنادقهم نحو الحدود السورية، بالتزامن مع تحليق مروحيات عسكرية تنقل تعزيزات إضافية إلى المنطقة. وقد تم حفر الخنادق وإنشاء سواتر ترابية عالية لتحصين الحدود العراقية السورية التى وصلت إليها من الجهة المتاخمة لمنطقة سنجار.
وأوضح خيرالله أن وجود عناصر «داعش» فى بعض المناطق الحدودية بين العراق وسوريا يتيح لهذه العناصر حرية حركة، وبعضهم يحاول الدخول إلى الأراضى العراقية لكن يقابل ذلك إجراءات أمنية مكثفة وتعزيز من تواجد القوات فى المناطق الحدودية، للتصدى لهذه العناصر التى تحاول الفرار إلى داخل العراق.
ويضيف: «منذ أقل من شهرين كانت عناصر داعش تتحرك أمامنا على بعد ٥ كيلومترات فقط، حاليا لا بد من التنسيق فى الحدود المشتركة، والتنسيق مع قوات (قسد) يخضع للضرورة، كونهم المسيطرين على الشريط الحدودى فى تلك المنطقة من الجانب السورى».
وأوضح: «فى هذه النقطة تقابلنا الحسكة السورية حتى عمق ٦٠ كم داخل الحدود السورية، لكننا غير مطمئنين للعمق السورى من هذة النقطة، كما أننا لا نطمئن للعمق العراقى من خلفنا، حيث لا تزال بقايا داعش تجوب المناطق داخل العراق، وتهدد قوات الحشد من الخلف».
ويقول: «لدينا مشكلة ٣٦٠ درجة هنا.. فلدينا حدود أمامنا وخلفنا تمتد إلى أراضٍ عراقية مازالت عناصر داعش تعمل فيها. التنسيق يجب أن يكون مع الجيش السورى والدولة السورية المعترف بها دوليا، لكن كأمر واقع نقوم بالتنسيق مع قوات (قسد) لضبط الشريط الحدودى».
المنطقة جزيرة واسعة مترامية الأطراف، وهناك خلايا لـ«داعش»، ولدينا جيش استخباراتى كبير نحدد البؤر الخاصة بهم ونقوم بمداهمة هذه الأوكار بالآليات أو عن طريق القوات الجوية.
ويؤكد خيرالله أن «داعش» لا يستطيع اختراق الحدود العراقية، كما حدث فى ٢٠١٤، فقوات الحشد الشعبى منتشرة بطول الشريط الحدودى، والجيش منتشر بتجهيزاته وعقيدته العسكرية والوطنية، وهناك اطمئنان وتكامل بين قوات الحشد والجيش العراقى، ما يجعل اختراق الحدود شبه مستحيل.
ويوضح أن هناك دعما كبيرا من الطيران العراقى، كما شنت العمليات لتحرير وتطهير نحو ١٧٥ قرية فى النطاق الصحراوى للجزيرة بمساحة تبلغ ١٤ ألف كيلومتر مربع، ثم أطلق الجزء الثانى من هذه المرحلة بهدف تأمين السيطرة على ما تبقى من قرى فى الظهير الصحراوى، جنوبى قضائى الحضر والبعاج غربى الموصل.
ويشير إلى أنه بهذه النتيجة لم يعد متبقيا لتنظيم «داعش» فى العراق سوى قطاع صحراوى محاصر، يقع فى المنطقة جنوبى قضاء الحضر وجنوب شرق قضاء البعاج، وهى منطقة باتت معزولة تمامًا عن أى إمداد بعد السيطرة الكاملة.
وعن استراتيجيات الهجوم، التى يعتمدها التنظيم، يقول خيرالله: «التنظيم يعتمد على القنص والسيارات المفخخة وهجمات تنفذ بمدافع الهاون ومدافع ٢٣ والمدفعية المتوسطة والعجلات المفخخة، وأفراده يعتمدون على الحركة ليلا للتسلل عبر الحدود، فيما تعتمد القوات الأمنية على مجسات حرارية ونظارات ليلية لكشف أى محاولات اختراق فردية».
يضيف خيرالله: «النقطة الثانية الأكثر التهابا على الحدود العراقية السورية تقع بالقرب من المعبر الحدودى بين منطقتى القائم العراقية والبوكمال السورية»، موضحا أنه مؤخرا اشتدت المعارك فى دير الزور السورية بين المجاميع الإرهابية وقوات سوريا الديمقراطية «قسد»، الأمر الذى دفع عددا من قيادات «داعش» وعناصره للتسلل نحو الحدود العراقية.
وقد تم إرسال تعزيزات من الجيش العراقى قوامها لواءان إلى مدينة القائم غربى محافظة الأنبار، تحسبا لهجمات قد يشنها التنظيم، ويأتى هذا الإجراء بعد أيام قليلة من سيطرة مسلحى التنظيم على مواقع جديدة بمحافظة دير الزور السورية، بالقرب من الحدود مع العراق.
بينما يتبع الخلايا النائمة للتنظيم وبعض فلوله هجمات على المدن العراقية من وقت لآخر ونفذت خلايا تنظيم «داعش» النائمة فى العراق فى الأشهر الأخيرة غارات وكمائن ضد قوات الأمن العراقية وضد المدنيين، لا سيما فى محافظات الأنبار وكركوك وصلاح الدين.
ويقول العميد يحيى رسول، المتحدث باسم العمليات المشتركة، إن هناك عناصر قليلة فى منطقة جرف الصخر بالقرب من الحزام الأمنى الضيق لبغداد، حيث تكثر فيها الأشجار الكثيفة بالإضافة إلى المنازل، وهذا ما جعله عاملا أساسيا لعدم تمكن القوات الأمنية من دخول تلك المنطقة، ما أتاح للإرهابيين سهولة التخفى والتنقل بها.
أيضا محافظة بابل ومركزها مدينة الحلة، تعد من أكثر محافظات الوسط التى يتخذ تنظيم «داعش» من مناطقها الشمالية المحاذية لبغداد والأنبار ملاذا له لشن هجماته.
ويضيف المتحدث باسم العمليات المشتركة أن القوات الأمنية نجحت فى تدمير العديد من الأنفاق فى سلسلتى بادوش والعطشانة، شمال غرب الموصل، مشيرا إلى أن «داعش موجود فى الصحراء الفارغة وبين الجبال، ولا تزال لديه خلايا صغيرة، إنهم ليسوا بأعداد كبيرة ولكنهم يطلقون هجمات مفاجئة وسريعة، ولديهم أشخاص داخل البلدات يساعدونهم».
كذلك شنت القوات الأمنية عمليات مسح لجبال حمرين، شرق محافظة صلاح الدين، التى تمثل عقدة صعبة، لأنها تتميز بتضاريس وعرة، ويختبئ بها عناصر التنظيم.