رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شعب النيل والقفز إلى سفينة النجاة الوحيدة


كل يوم أصحو من نوم متقطع، مضطرب، متسائل، يشتبك مع جسدى، فى معركة فرضتها الأحكام العرفية، ضد وجودى. كل يوم تدخل الشمس إلى حجرتى، لكنها لا تدخل إلى قلبى. تغتر الشمس كثيرا بنفسها. تعتقد أن مجرد إشراقها كل صباح كاف لأن أؤمن بها. مسكينة الشمس دءوبة الإشراق.
كم أشفق عليها. لو فقط تعلم، أننى لا أستبشر خيرا، إلا عندما تختفى وراء السحاب، لتشرق شمس قلبى. الأشياء من حولى، تتآمر على هدوئى، وسكينة روحى. وهذا ليس بالأمر الغريب. كيف أعيش فى هدوء وسكينة، والعالم صاخب، زاعق، أكثر من القدر المسموح به، فى المواثيق الصحية الدولية؟. وأكثر، من قدراتى على التحمل، والتجاهل، والتأقلم؟. أحب جدا شهر «نوفمبر». فهو الشهر الوحيد الذى يبدأ بحرف «النون». بينى وبين حرف «نون»، علاقة حميمة، لا أود كشف أسرارها.
«نوفمبر» هو شهر «البحر». كل الناس يسافرون إلى «البحر» فى الصيف. وأنا فى الصيف، لا أغادر «القاهرة». منْ تعشق السباحة، والهدوء، ونسمات الخريف الباردة، مثلى، تجد فى شهر «نوفمبر»، الرفقة المثالية. سأسافر إلى «البحر» الفيروزى، لون الشجن الممتع، واللون الأزرق، لون الحزن المشتاق إلى مزيد من الآهات. دائما «البحر»، ينتظرنى كل عام، فى منتصف «نوفمبر». يهيئ لى جو التأمل، والكتابة، والبكاء الهادئ، وانكسار الأمواج، التى لا يكسرها أحد. على صفحة «الماء،» أو على صفحة «الورق»، أسبح ضد التيار. يشتد التيار، فتصبح السباحة، والكتابة، أكثر إمتاعا. يعاندنى التيار، يخيفنى بالدوامات، يسحبنى بعيدا عن الشاطئ. يحرض ضدى، العشب، والأسماك، والصخور، والعيون المتطفلة. وأواصل، لا مبالية، رحلتى مع «البحر»، ورحلتى مع «القلم».
شغلتنى دائما، العلاقة بين «السباحة»، و«الكتابة». أتأمل الخيوط المشتركة بين حركة الجسم فوق الماء، وحركة العقل فوق الورق. عاشقة أنا للسباحة، إلى حد الهوس، وأمارسها يوميا، على مدار العام. وعاشقة أنا، للكتابة، إلى حد الهوس. أمارسها يوميا، على مدار العام. ويدفعنى هذا العشق والهوس، لإيجاد علاقة ما، بين تدفق الماء، وتدفق الكلمات؟. بين «السباحة»، والكتابة.. بين «الماء»، والحضارة.. بين «البحر»، والثقافة. قبل إقامة صداقة، مع أى شخص، امرأة كان أو رجلا، أسأله:
هل تجيد السباحة؟. هل أنت فى تواصل دائم، مع الماء؟. هل تثقفت على أمواج البحر؟. ولهذا السبب، ليس عندى أصدقاء. أؤمن مثل الفيلسوف اليونانى «طاليس»- تقريبا ٦٢٤، تقريبا ٥٤٦ قبل الميلاد- بأن الماء، هو أصل كل الأشياء، والجوهر منه خُلقت الأرض والسماء. ليست مصادفة أن نسبة الماء فى جسم الإنسان، هى النسبة نفسها للماء على كوكب الأرض، ثلاثة أرباع. لا ينتابنى شك فى أن مأساة البشر تكمن فى ابتعادهم عن قيم وأخلاقيات وعواطف، تشكل فى مجموعها، ما أسميه «حضارة الماء». كيف نتوقع خيرا من حياة، تخاصم أصلها؟. كيف يرتقى البشر، وهو منفصلون عن جوهر الوجود؟.
الناس مؤرقون بالبحث عن الفلوس والنفوذ والسيطرة والتملك. ليس لديهم الوقت، أو الفلسفة، للبحث عن أصل الحياة. من الإنصات لموسيقى الكون، نكتشف أجمل الغِناء. من قاموس المطر، نتعلم فن الشِعر. كل النبوءات العظيمة كانت تبشر بزمن الماء. القصائد الخالدة، كُتبت كلها بلغة البحر. «البحر» يعلمنا الانفتاح اللانهائى، وتقبل الأفق الذى يحتوى على كل الألوان. ثقافة «البحر» متجددة، ثرية، مدهشة، لا تعرف التنميط، والرتابة، والجمود. مع «البحر»، أدركت التشابه بين السباحة والكتابة. فكما «الماء» أصل الحياة، «الكلمة» أصل الحضارة. «السباحة» تنظف جسد الإنسان «الكتابة» تنظف جسد شعب.
أكثر من أربعين عامًا، ونحن نستهلك حضارة الصحراء. حضارة غريبة عن أرضنا، لا تشبه المزاج المصرى المعتدل، المحب للحياة، والحب، والرقص، والغناء. حتى أزياء النساء، وأحوال الطقس، أصبحت متزمتة قاسية. الخلاص، هو العودة إلى حضارة الماء، وزمن المطر، وثقافة البحر. إنها سفينة النجاة الوحيدة. هل نحن شعب «النيل»، نساءً ورجالا، مستعدون للقفز على هذه السفينة؟. إنها معركة طويلة الأمد.. معركة الوجود، أو اللا وجود. نكون أو لا نكون.