رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين إسطنبول والرياض.. «الفخ أكبر من الطير»




قبل سنوات استمعت إلى هذا المثل الخليجى لكننى أبدا لم أنسه، وقد ألح علىّ كثيرا خلال متابعتى لكيفية استغلال إسطنبول جريمة قتل الصحفى جمال خاشقجى، ووجدتنى أردده بصوت مسموع وأقول «الفخ أكبر من الطير».
لست بحاجة للقول إننى أرفض جريمة قتل خاشقجى، فقد قالها وزير الخارجية السعودى بشكل واضح، وقال إنه يتمنى لو لم تحدث هذه الجريمة، ولست بحاجة للتأكيد على أننى أرفض أى جريمة قتل وأدين أى قاتل، سواء أكان عربيا أو أمريكيا أو أوروبيا، وبالذات لو كان إسرائيليا.
ولكننى أرفض أيضا أن يستغل صائدو الدول فى زمن الربيع العربى المشئوم، هذه الجريمة لنصب فخ لهز أو زعزعة استقرار واحدة من أكبر دولتين عربيتين، وهى المملكة العربية السعودية، ليس انطلاقا من دافع عاطفى بل بدافع سياسى وطنى، فاستقرار السعودية من استقرار مصر، والعكس صحيح.
إنها جريمة نعم، ولا بد من محاسبة مرتكبيها أشد الحساب، وأنا أثق فى أن هذا سيحدث، ولكن هذا لا يدفعنى لأن أصدق هذه المسرحية الدائرة بين إسطنبول وواشنطن وباريس وبون من أجل ابتزاز السعودية، فأنا لا أصدق أن هذه العواصم التى لم تهتم بقتل أكثر من مليون عربى فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، يمكن أن تهتم أو تذرف الدموع لمقتل مواطن عربى.. إنهم بكل صراحة يتلذذون بقتل العرب منذ عشرات السنين، فهل ستقوم الدنيا من أجل جمال خاشقجى أو أى شخص عربى آخر؟.. لا أصدق هذا، وأؤمن إيمانا شديدا بأن المقصود «صيد» أثمن وهو السعودية كلها وبالتحديد ثرواتها.
وإذا قيل من باب الخداع واللعب بالعقول، إنها جريمة ضد صحفى صاحب رأى أو صاحب قلم، فلماذا لم تتحرك الضمائر الغربية لهذه الطريقة البشعة التى قتلت بها أوائل شهر أكتوبر، الصحفية البلغارية فيكتوريا مارينوفا، التى اغتصبت وقتلت خنقا وضربا عقب تقديمها حلقة من برنامجها التليفزيونى، تناولت فيها ما يتردد حول الفساد فى صناديق للاتحاد الأوروبى، وقد طال الحديث فى هذه الحلقة رجال أعمال وسياسيين بارزين فى بلدها فكان جزاؤها القتل بهذه الطريقة الوحشية «أيضا»؟‪.‬
ولتأكيد الفكرة فإن مارينوفا هى واحدة من ثلاثة صحفيين أوروبيين قتلوا خلال هذا العام فقط، بسبب أفكارهم وممارساتهم المهنية، ففى فبراير الماضى قتل الصحفى السلوفاكى يان كوسياك وخطيبته بالرصاص أمام منزله، بعد تحقيق له عن التهرب الضريبى من جانب رجال الأعمال ذوى الصلة بالحزب الديمقراطى الاشتراكى الميهمن فى سلوفاكيا، وفى أكتوبر من العام الماضى قتلت الصحفية المالطية دافنى كاروانا جاليزيا، التى أسهمت بكفاءة فى كشف الفضائح السابقة فى مالطا، والمعروفة بوثائق بنما، حيث تم تفجير سيارتها التى كانت تستقلها بالقرب من منزلها‪.‬
ولم نر بعد هذه الاغتيالات البشعة للصحفيين الثلاثة أى بكاء أو عويل من الاتحاد الأوروبى أو «ماما أمريكا»، ولم يسع أحد لنصب فخاخ لبلغاريا أو سلوفاكيا أو مالطا، فهى دول تم تدجينها بالكامل بعد تمثيلية الربيع الأوروبى، التى تلت سقوط حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفيتى، فتم تقسيم ما أرادوا تقسيمه وفرضوا هيمنتهم على باقى دول أوروبا الشرقية.
لكن المشكلة أن السعودية ومصر نجوتا من فخ الربيع العربى المشئوم، ومن المخطط الذى أعده الشيطان الراحل برنارد لويس، بتقسيمهما إلى عدة دول ضمن خارطة تحلم بشرق أوسط هزيل يساق البشر فيه كالأنعام، دون أن يجرؤوا على أن يرفعوا صوتهم بالشكوى.
ولكن من قال إن تحالف قوى الشر أو المستعمرين الجدد يعرفون الاستسلام؟، لذا كان من المتوقع أن يحاولوا من جديد، بسيناريوهات مختلفة، وهم فى الحقيقة لا يعدمون الحيلة، فلديهم عشرات السيناريوهات وآلاف الأكاذيب، ولديهم آلة إعلامية ضخمة تروج لهذه الأكاذيب وتسوقها ليس فقط فى بلادهم، بل أيضا فى بلاد الضحايا المحتملين.
وقد كان واضحا أن المحاولة ستبدأ هذه المرة بالسعودية وليس بمصر، وقد بدأت فيما أعتقد بسيناريو عاصفة الحزم فى اليمن، وهى حملة بدأت بوجود جنرالات أمريكيين فى غرفة العمليات، شاركوا فى الإعداد والتخطيط، ثم سارعوا بالانسحاب للتشكيك فى الحرب العادلة ضد الوجود الإيرانى المتستر وراء الحوثيين فى اليمن، وقيل إنهم قدموا إحداثيات خاطئة عمدا لتصيب الطائرات أهدافا مدنية، ومن يومها لم تتوقف تمثيليات بيانات الإدانة والشجب.. ولا أعتقد أن تصريحات ترامب الأخيرة حول الحماية مقابل المال، سوى خطوة فى اتجاه تصعيد هذه الحملة، وأخيرا جاء فخ إسطنبول، الذى انتهى بجريمة قتل خاشقجى التى قاموا بتضخيمها، وتصويرها كأنها عملية مساوية لاغتيال ولى عهد النمسا، التى أدت لاندلاع الحرب العالمية الأولى!.
إن كنت أرفض قتل الصحفى جمال خاشقجى، الذى طالما وقف ضد بلدى مصر لأننى ضد القتل أيا كان مرتكبه، فإننى أعتقد أن من واجبى تنبيه الغافلين لهذه الكذبة الكبرى أو لهذا الفخ الكبير لهز استقرار بلد قريب ليس من قلوبنا فقط، بل عقولنا أيضا، بلد فرضت الظروف التاريخية والجغرافية والسياسية، أن يكون أكبر حليف استراتيجى لمصر، ومن هذا المنطلق فقد وقفت المملكة العربية السعودية بقوة وحزم ضد محاولة إسقاط مصر فى أعقاب ٢٥ يناير ٢٠١١، وقد جاء دورنا لتبادل الأدوار، وعلينا أن نقف إلى جانبها قلبا وقالبا، وأن نرفض بكل السبل أى محاولة للنيل منها.. لأن استقرار السعودية من استقرار مصر.. شاء من شاء وأبى من أبى.