رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعيد شعيب يكتب مذكراته: ليلة تحرير أم كلثوم وعبدالحليم فى العراق

جريدة الدستور

- فريد الأطرش ومحمد فوزى كانا ضمن المحرمات على لائحة الحزب الشيوعى لأنهما يعبّران عن «الحب البرجوازى»
- لم أحب أمل دنقل رغم أن ذلك من متطلبات «الوجاهة اليسارية» ومعظم أغانى فيروز لا أستمتع بها ولا تمس روحى
- لم أستمتع بـ«الشيخ إمام» إلا عندما يغنى «مصر يا أما يا بهية».. ولم أحب «جيفارا مات»
- نجيب محفوظ لم يكن يحظى بـ«رعاية قبيلة اليسار».. وصلاح عبدالصبور مات بسبب «مزايدات النبلاء المزيفين»
- فى دنيا اليسار من يخرج عن القبيلة يتعرض لهجوم عاصف وتضييق بلا حدود

كان يومًا حارقًا من أيام صيف العراق فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى. البيت عبارة عن غرف متجاورة تطل على ساحة ومنها إلى الباب الخارجى. فى ركن الساحة الصغيرة توجد دورة المياه، دورات المياه فى البيوت العراقية دائمًا بعيدة عن الغرب، فى الطرف البعيد. دخلت لكى أستحم بماء هو أيضًا كان ساخنًا بسبب حرارة الجو. أخذت حمامًا بطيئًا، كنت أنظف جسدى مرة واثنتين وثلاثا، لا أعرف لماذا؟. ارتديت الملابس الداخلية بعد أن بللتها بالماء، وذهبت إلى غرفتى. كنت وحيدًا بالمنزل. أطفأت كل الأنوار وتمددت على وسادة مبللة بالماء وظللت أنظر إلى السماء بلا هدف.
وضعت شريط كاسيت فى جهاز التسجيل، وصلت إلى أغنية «على قد الشوق» وبدأ عبدالحليم فى الغناء، كلما انتهت أعدتها مرة أخرى «أبنيلك قصر عالى وأخطف نجم الليالى».. كانت الأغنية الأكثر رومانسية فى حياتى. ووجدتنى أبكى كما لم أبك من قبل، دموع حارة لا تتوقف. تذكرت كم كنت بعيدًا عن عبدالحليم، كم كنت بعيدًا عن كل ما أحبه. كم كنت بعيدًا عن نفسى.

كان عبدالحليم من ضمن قائمة المحرمات الطويلة لحزب العمال الشيوعى المصرى، وفى القائمة الكثيرون على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش وشادية ومحمد فوزى، وبالطبع الأجيال الأحدث عمرو دياب ومحمد فؤاد وغيرهم وغيرهم. السبب أن هؤلاء يعبرون عن الحب البرجوازى، نعم البرجوازى. لأنهم فى رأى قادتى وقتها فى هذا التنظيم السرى، يعبرون عن ضعف المحب أمام المحبوب، إنها علاقة ضعيف مع آخر قوى، إنها علاقة استعباد. إنها مثل علاقة العبيد «طبقة العمال– البوليتاريا» بالسادة الرأسماليين. الذين يستغلونهم ويمصون دماءهم. ولأن الماركسية ومعها حزب العمال يريدون القضاء على كل علاقات الاستعباد فى المجتمع، فقد حرموا عبدالحليم حافظ.
الحقيقة أننى لم أشعر أبدًا بأن عبدالحليم يدعم الرأسمالية ضد العمال، ولم أفكر فيه. لكن يبدو أننى فى هذه السن المبكرة «العشرينيات» كنت بحاجة إلى جماعة أشعر بأننى جزء مهم منها، جزء من قطيع. فى أغلب الظن أننى كنت أفتقد هذا الإحساس مع عائلتى. وفشلت فى الحصول عليه من معظم صداقاتى التى كونتها فى سنواتى الجامعية الأولى. رغم أننى أصدرت مجلة أدبية مع أصدقاء العمر ناصر عراق ومحمد القدوسى. كنت وقتها أكتب القصص وأقرأ كل ما تقع عيناى عليه. لكن يبدو أننى كنت بحاجة إلى ما هو أكثر من الصداقات، تنظيم ما، جماعة ما. كنت أريد الانتماء إلى كيان ما، قضية ما.
كان تنظيم حزب العمال، الذى التحقت به، ليس فقط صاحب أيديولوجيا جذابة، لأنها سوف تحل بسهولة شديدة مشاكل الكون دفعة واحدة. ولكن أيضًا وهو الأهم بالنسبة لى أنه يقدم عالما مثاليا خياليا أعيش فيه (أى داخل التنظيم) وأنتمى إليه. هذا العالم الخيالى كان يقدم بديلًا لكل شىء: الحب، العمل، الصداقة، الغناء، الأدب.. وحتى العلاقات الزوجية. ربما لذلك انضممت إلى هؤلاء «النبلاء» الذين يريدون تغيير العالم وجعله شيوعيًا، حيث الحق المطلق والعدل المطلق والخير المطلق.
كانت بدائلهم فى الغناء كثيرة. منها وأهمها الشيخ إمام عيسى، الذى كان يشدو بكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم. كانت أول مرة أرى الرجل وأستمع إليه مباشرة فى زواج رفيق ورفيقة. كانت حفلة الزواج فى بيتهما الجديد. لم يرتد العريس «البدلة»، ولم ترتد العروس «الفستان الأبيض»، ولم يرتد أحد من «المعازيم» شيئًا خاصًا، ولم يكن هناك طعام استثنائى فى هذه المناسبة الاستثنائية، فقط أطباق طعام بسيط متناثرة وعدد كبير من زجاجات البيرة. كان السبب فى هذا التقشف ليس الفقر، لكن أولًا رفض العادات البرجوازية فى الزواج. الحقيقة كنت مبهورًا بهذا العالم المثالى، هذا العالم الذى يرفض معيار الغنى والفقر، الضعيف والقوى، المعيار هو أن تكون إنسانًا شيوعيًا، أى متخلصًا من كل ما هو غير إنسانى عند الطبقة البرجوازية.
كنت أطفو فى حلم، حلم خلصنى من سطوة أبى القاسية. لن يعذبنى ضميرى مجددًا وأنا أرى هذا العامل فى مصنعنا بعد أن فقد إحدى عينيه. لن أتعذب وأنا أرى أسنان هذا العامل الشاب بعد أن تحطمت. لن أرى مجددًا هذا العامل الذى تم طرده لأنه مريض وغير قادر على العمل. لن أتعذب برقدته على السرير واضطرار ابنته الكبرى لهجرة المدرسة والعمل فى أحد المصانع حتى تنفق على أسرتها الفقيرة. لن تعانى الأمهات مثلما عانت أمى مع أبى. كل ذلك سوف يتم القضاء عليه بعد نجاح ثورتنا الاشتراكية الشيوعية المسلحة.
إنه العالم الجديد، الحلم الذى سوف نكون، أنا والرفاق الشيوعيون، قادته، سادته، نشكله كيفما نشاء. سنكون طليعة الطبقة العاملة التى تزيح من طريقها البرجوازية «الخسيسة» وحلفاءها «الحقراء» من الوجود، لن يكون هناك غيرنا، حيث ننفذ على الأرض بكل قوتنا، حلم المساواة المطلقة، حلم العدل المطلق، الحرية المطلقة.. إنه الحلم الشيوعى العظيم.

كان القادة يدفعوننا أحيانًا برفق وأحيانا بـ«جليطة» لكى نندمج ونصبح جزءًا من هذا العالم الشيوعى الساحر. لا أنسى عندما قال لى القائد الشيوعى «القصة اللى كتبتها هل ممكن يفهمها عامل فى مصنع والدك؟». إنه السؤال المفخخ الذى فجر «عالمى القديم» ووضعنى فى مواجهة قاسية مع ما يتناقض مع الشيوعية التى أتمناها، كما أنه يتناقض مع صورتى الجديدة الجميلة التى أريد رؤيتها فى عيون الرفاق. إننى أعشق هذه الصورة، لقد أصبحت عبدًا لها ومؤمنًا بها. توقفت عن الكتابة بعدها، كما توقفت عن السير وراء استمتاعى بأعمال فنية قد لا توصلنا إلى «الحلم الشيوعى». كما كرهت مدرسة «الفن للفن»، الفن الذى يمتعك ولا شىء غير ذلك. كنت أحب كارتون توم وجيرى، لكنه يعبر عن القيم الرأسمالية، إنه يدور حول صراع أبدى لن ينتهى، ونحن كشيوعيين لا يجب أن ندعم هذه القيم البرجوازية الإمبريالية، فكل الصراعات سوف تنتهى عندما نطبق الاشتراكية. كرهت «توم وجيرى»، فلم يكن أكثر من مجرد متعة. هذا «الفن للفن» ليس إلا حيلة من الرأسمالية العفنة لإلهاء الطبقات المطحونة حتى تنال حقوقها، وإلهاء الثوار عن السعى قدمًا فى طريق التعجيل بـ«الثورة الشعبية». الفن والإبداع يجب أن يكونا الأداة القوية «لثورة الفقراء»، فهى حتمًا قادمة، وعلىَّ كـ«شيوعى حقيقى» ألا أنشغل بالتفاهات البرجوازية وأضيع وقتى ووقت الثورة.
كان اللقاء الذى ألقى فيه القائد الرفيق «السؤال المفخخ» فى حديقة الخالدين بالدراسة فى القاهرة. كنا مجموعة من الشبان والشابات فى مقتبل العمر. فينا الأديب والرسام والمسرحى... إلخ. كنت وقتها مغرمًا بالفنون والآداب، أكتب القصص القصيرة وأصدرت مجموعة قصصية بعنوان «رغبات متناهية الصغر». وقبل هذا اللقاء كنت قد أصدرت مجلة «أوراق» من أموال أبى مع الرسام ناصر عراق والشاعر محمد القدوسى. لكنها توقفت لأسباب كثيرة، أهمها بالنسبة لى أنى كنت «متلخبط»، وانضمامى إلى هذه المجموعة من حزب العمال الشيوعى فى كلية الفنون الجميلة أربكنى، ما بين عالمى القديم والجديد، وما بين هذا وذاك توقفت المجلة وتوقفت عن الكتابة، إلى أن عدت إليها تدريجيًا فى غربتى بـ«العراق»، إلى أن تأكدت أن الكتابة هى طريقى وحياتى وأننى لن أتخلى عنها مرة أخرى.
كان القادة فى حزب العمال الشيوعى يدفعوننى برفق لكى أستمع إلى الشيخ إمام، وعدلى فخرى، وفيروز، ومارسيل خليفة، نحب هؤلاء، فهم يعبرون عن الفن الاشتراكى، الفن الشيوعى، الذى يهيئ الجماهير لثورتها المقدسة، للإطاحة بكل هذا العفن الرأسمالى. إن الاستماع إلى هؤلاء جزء أصيل من «وجاهة» اليسارى، التى يتباهى بها.
ربما لذلك عندما قرر الحزب الاستيلاء على قصر ثقافة شبرا الخيمة، لم يفكروا فى أن يزرعوا فيه هذه الشابة الجميلة التى كانت تحصد المركز الأول فى التمثيل فى مسابقة مسرح الجامعات. ولا الشاب الذى كان مغرمًا بالمسرح، وله تجارب مهمة. لم يفكروا فى أن يزرعونى وأنا المتيم بالآداب والفنون، ولا فكروا فى هذا الرفيق الذى يكتب شعرًا بديعًا.. لكنهم زرعوا فى فريق التمثيل بالقصر رفيقًا لا علاقة له من قريب أو بعيد بأى فن من الفنون. فقد اعتبروا أن هذا «عمل جماهيرى» يستلزم وجود رفيق أعلى تنظيميًا منا نحن الشباب. إنهم يريدون تجنيد الشباب المترددين على هذا القصر. وبالتالى، فالأولوية لقائد لديه خبرة جماهيرية. لا أعرف حتى الآن لماذا أشفقت عليه عندما رأيته على خشبة المسرح، كان مرتبكًا إلى حد ما، وكان بائسًا، لكننا فى ذات الوقت كنا معجبين بـ«نضاله الجماهيرى».
نفذت بكل قوتى وسمعت ما يحبه ويريده قادتنا، لكنى لم أستمتع إلا قليلًا. لكن ليس المهم الاستمتاع الملوث، المهم أن الغناء الذى تسمعه يوصلنا إلى «الثورة». صحيح أننى كنت معجبًا بشجاعة الشيخ إمام، معجب بقراره أن يضحى ويهجر الشهرة والمال، ليقتات من دعوات الرفاق فقط لا غير. كما كنت مبهورًا بأشعار أحمد فؤاد نجم القوية والمعارضة لهذه السلطة الغاشمة والمناصرة للعمال والفلاحين.
كنت مأخوذًا عندما سمعت مارسيل خليفة، هذا المطرب المناضل، هزنى عندما حضرت احتفالية ضخمة للتبرع بالمال والدم للشعب الفلسطينى (أناديكم، أشد على أياديكم، أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم). انبهرت بكل هذه الأجواء وبهذه الكلمات القوية، متعة أن تكون خارج ذاتك الضيقة وتنتمى إلى عالم رحب. متعة أنك قادر على تغيير هذا العالم الردىء، متعة أن تكون راديكاليا. سنستعيد فلسطين ونطرد الصهاينة عملاء الإمبريالية الذين يريدون تحطيم منطقتنا وتحطيم حلمها الاشتراكى. ترقرقت دموعى فى هذه الليلة وتبرعت بدمى.. أنا أريد أن أكون موجودًا هنا مع هؤلاء الناس. لكن الحقيقة أننى لم أستمتع إلا بالقليل جدًا من أغانيهم، لم تلمس روحى، لم أستمتع بالشيخ إمام إلا عندما يغنى لمصر (مصر يا أما يا بهية). لم أحب أغنيته (جيفارا مات)، أحب بعض الأغانى لفيروز، أغانيها عن الحب. لا أستمتع بباقى أغانيها. ما السبب، ما الذى جعل روحى لا تستسيغ كل ذلك؟.
مؤكد أنها أمراض البرجوازية اللعينة كما كنت أقول لنفسى وكما كانوا يقولون لى، أنا ابن صاحب المصنع. لكن الحقيقة التى اكتشفتها بعد ذلك بزمن طويل هى أننى لم أحب الشيخ إمام، فلم أشعر أبدًا بأن أعماله تمس روحى. كنت أشعر بشكل ما أنه يمس ما قررته لنفسى، ما أتمناه، ما أريده، أى أن أكون جزءًا من هذا العالم الجديد، هذا العالم، الذى يمنحك متعة أنك «منقذ العالم»، إنها الصورة التى استعبدتنى وسلبت روحى.
لم أحب أمل دنقل. صحيح أنه مطابق للمواصفات اليسارية، صحيح أنه يهتف ضد الظلم والاستعباد، يصرخ «لا تصالح.. أترى عندما أفقأ عينيك وأضع جوهرة هل ترى.. لا تصالح». صحيح أن كل الرفاق الذين سلمتهم نفسى يمدحونه، لقد أصبح جزءًا من «الوجاهة اليسارية»، وصحيح أننى اشتريت كل أعماله وقرأتها «مرة واثنتين وعشرا»، وصحيح ومليون صحيح أننى كنت شغوفًا بأن أرى نظرات الإعجاب عندما أحب ما يحبونه.. لكن الحقيقة أننى لم أحبه ولا انتميت إليه.

فى هذه الليلة فى العراق كنت أزيح تلك القشرة الصلبة، باكيًا متألمًا، لأستعيد ما أحبه بصدق. كنت أسترد ما فقدته من روحى، كنت أعود إلى نفسى بنفسى. وبصوت عال أقول «أنا أحب صلاح عبدالصبور»، أردد أبياتًا من أحلام الفارس القديم:
قد كنتُ فى ما فات من أيّامْ
يا فتنتى محاربًا صلبًا، وفارسًا هُمامْ
من قبل أن تدوس فى فؤادىَ الأقدامْ
من قبل أن تجلدنى الشموسُ والصقيعْ
لكى تُذلَّ كبريائىَ الرفيعْ
وصافيةً أراكِ يا حبيبتى كأنما كبرتِ خارجَ الزمنْ
وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنتُ أننا
مفترقانْ
وأننى سوف أظلُّ واقفًا بلا مكانْ
لو لم يُعدنى حبُّكِ الرقيقُ للطهارة
فنعرفُ الحبَّ كغصنىْ شجرة
كنجمتين جارتينْ
كموجتين توأمينْ
مثل جناحَىْ نورسٍ رقيقْ
عندئذٍ لا نفترقْ
يضمُّنا معًا طريقْ
يضمّنا معًا طريقْ.
ومأساة الحلاج:
لم يختر الرحمن شخوصًا من خلقه
ليفرق فيهم اقتباسًا من نوره
هذا، ليكونوا ميزان الكون المعتل
ويفيضوا نور الله على فقراء القلب
وكما لا ينقص نور الله إذا فاض على
أهل النعمة
لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض
على الفقراء.
لقد مات صلاح عبدالصبور فى بيت أحد رسامى الكاريكاتير الكبار، فقد زايد أصدقاؤه لأنه قبل منصب رئيس هيئة الكتاب ولم يستقل عندما تمت استضافة إسرائيل فى معرض الكتاب. أحد هؤلاء شاعر كبير قبل فيما بعد رئاسة تحرير مجلة تصدرها وزارة الثقافة. وقد حاول الاثنان أن يبرئا نفسيهما بأن صلاح «كان هيموت» فى كل الأحوال، حسب تأكيدات الطبيب، الذى كشف عليه بعد الوفاة.
ما حدث مع العظيم صلاح عبدالصبور، حدث ويحدث مع من يقرر أن يخرج أو تكون له مواقف غير متطابقة مع قبيلة اليساريين، فيتم حرمانك من النشر فى الصحف التى يسيطرون عليها، بل وربما يشنون عليك هجومًا قاسيًا «يهد حيلك». أما لو كنت «يساريا» مطابقا لمواصفاتهم، فالعكس هو الذى يحدث، يهللون لك ويفتحون مساحات واسعة من النشر، حتى بغض النظر عن مستواك الفنى. ربما يتذكر كثير من أصدقائى من قدامى اليساريين هذا القاص، الذى تبناه أهل اليسار فقط لأنه «عامل»، فتحوا له أبواب صحفهم وكتب عنه نقاد يساريون ونشرت له دور نشر يسارية. كانوا يقدمونه باعتباره بديل يوسف إدريس «البرجوازى».
رحل الاثنان، لكن بقى وسيبقى إدريس. مثلما بقى وسيبقى نجيب محفوظ، الذى لم يكن يحظى برعاية قبيلة اليسار مثل الأدباء اليساريين. إنه التحيز الأيديولوجى الأعمى من البصر والبصيرة. عمى من يريد أن يعيد صب المجتمع «كله على بعضه» على مقاس أيديولوجيته.
أتذكر عندما خرجت من المسرح القومى بعد أن أصبح معى اشتراك فى «نادى المسرح القومى»، كنت أشعر بسعادة غامرة، كنت مزهوًا وأشعر بأننى فى الطريق الصحيح.. أنا مغرم بالمسرح والسينما والآداب. كان عمرى وقتها ١٩ عامًا (قبل التحاقى بحزب العمال). أتذكر كيف كنت مسحورًا بخشبة المسرح القومى، بالبناء القديم العتيق من الداخل، وحتى بمكتب من أعطانى «الكارنيه». وفى طريقى للخروج صادفت الشاب الذى بدأ طريق شهرته فى ذلك الوقت المبكر «ممدوح عبدالعليم». كنت فرحًا وقلت لصديقى «أخيرًا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح». لكن كل هذا مات بالسكتة القلبية مثل صلاح عبدالصبور. فعندما قال لى الرفيق القائد «العامل اللى شغال فى مصنع أبوك هيفهم القصة دى؟»، كانت الضربة القاتلة التى حولتنى إلى «رفيق جماهيرى» طلق كل ما يحب من أجل ما لا يحب.
ربما لذلك بكيت بحرقة فى هذه الليلة فى محافظة الديوانية بالعراق. قلت لنفسى بصوت عال: أنا أحب عبدالحليم وأم كلثوم ونجاة.. لست مغرما بمكسيم جوركى ولا جاك لندن. لكنى أحب يوسف إدريس ونجيب محفوط وتولستوى.. لا أحب صراخ أمل دنقل. لكنى مغرم بالفارس القديم عند صلاح عبدالصبور. لست متيمًا بفيروز، لكنى أحب بعض أغانيها.
أحببت محمد فؤاد فى شريطه الأول «فى السكة»، كنت فرحًا وأنا أسمع أغانيه عندما كنا «ندهن» شقة أحد الأصدقاء فى بولاق أبوالعلا. وفيما بعد كنت مغرما ببعض أغانيه «يعنى إيه كلمة وطن».. ومغرم بأغنية عمرو دياب
«أنا مهما كبرت صغير
أنا مهما عليت مش فوق
اليوم والأمس وبكرة
فعيونكم كانت فكرة
شايلين فى القلب الذكرى
باين فعنينا الشوق».
كان بكائى فى هذه الليلة العراقية حارًا وموجعًا، فلم يكن فقط استعادة جزء من روحك، لكنه الألم المبرح لما تركته أيام الحلم الشيوعى من جروح وبثور ودمامل عميقة. كما كان بكائى على حالى، فأنا الذى عاش فى العراق ٢٠ شهرًا ليجمع فتات المال، بعد أن تخلى عنه «الرفاق النبلاء»، لأجد نفسى، بلا مال، بلا عمل، بلا حلم.
كانت قسوة الرفاق أكثر مما أستطيع احتماله، لكنه حدث، وترك ما ترك. دفعت ثمنًا باهظًا لكى أكون تقريبًا كما أريد.. سنوات قليلة وأصبحت صحفيًا وكاتبًا.. سنوات قليلة بعد الليلة العراقية الحزينة وكتبت مسرحية مانرضاش.
لقد عدت إلى نفسى بنفسى بعد كل هذا الدم.