رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الملاك.. أشرف مروان (3-3)


لو أردت تقييم «الموساد»، شاهد فيلم «الملاك - The Angel»، ولا أعتقد أن تقييمك أو تقييم «أى حد بيفهم» سيخرج عن «تافه»، «تافه جدًا» أو «عبيط». أما لو قرأت الكتاب الذى تقول «تيترات» الفيلم إنه مأخوذ عنه، فقد يكون التقييم بين «ردىء»، و«ردىء جدًا» أو «ساقط».
التقييم يخص «الموساد» والأجهزة المخابراتية والأمنية الإسرائيلية إجمالًا، وليس فقط هذا الفيلم الهزلى، الضعيف فنيًا، والملىء بالثغرات والثقوب. وكذا، كتاب «الملاك-الجاسوس الذى أنقذ إسرائيل»، الذى اتسع فيه الرتق على الراتق أى على المؤلف أورى بار جوزيف. والتقييم نفسه ينسحب على «خطة الانتقام» الإسرائيلية من حرب أكتوبر وأبطالها، التى يمكنك اعتبار الفيلم والكتاب حلقتين فيهما، بينما أراهما مجرد محاولتين، بين محاولات كثيرة، شارك فيها طيبون وأوغاد، من هناك وهنا، للضغط على المخابرات المصرية حتى تكشف حقيقة الدور الذى قام به أشرف مروان، وتجيب عن السؤال الذى كان الإسرائيليون (وما زالوا) عاجزين عن الإجابة عليه: هل كان عميلًا لهم أم عميلًا مزدوجًا، قام بتضليلهم؟
المحاولتان، سبقتهما وتبعتهما «حواديت» عبثية ووثائق مزعومة، مزيفة، أى «مضروبة»، كان أحدثها تلك التى نشرتها جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، فى ١٧ سبتمبر، بزعم أن تسيفى زامير، رئيس الموساد، أرسلها إلى جولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية وقتها، من لندن، وينقل لها فيها أن أشرف مروان أكد له حدوث هجمة مصرية- سورية على إسرائيل من جبهتى السويس والجولان قرب ليل يوم ٦ أكتوبر. وأنه «بحسب المصدر، يمكننا أن نذيع عبر الراديو والصحافة أننا نستطيع التصدى للحرب. وهذا سيثبت لمصر وللقيادة العسكرية المصرية أننا على علم بخطتهم ومستعدين لها». وتضمنت الوثيقة ملحوظة ذكر فيها رئيس الموساد أن «تقييم المصدر لإمكانية اندلاع الحرب فى يوم ٦ أكتوبر هى ٩٩٪، يتبقى ١٪ تحسبًا أن يغير الرئيس السادات رأيه فى اللحظات الأخيرة».
فات على مَنْ قاموا باختلاق (أو بتزييف) تلك الوثيقة، أنهم سبق أن اختلقوا (أو زيّفوا) وثيقة أخرى، تم نشرها سنة ٢٠١٢، تتضمن ما قيل إنه محضر اجتماع القيادتين السياسية والعسكرية فى الساعة الثامنة وخمس دقائق صباح يوم السادس من أكتوبر، برئاسة جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية فى ذلك الوقت، وكان موضوعه الرئيسى عن برقية أرسلها تسيفى زامير، رئيس الموساد، من لندن، بعد لقائه بأشرف مروان. وعلى أساسها اقترح ديفيد إليعازر، رئيس الأركان، طبقًا للمحضر، أن يفوضه الحاضرون لتوجيه ضربة استباقية قبل حلول الظهر، وبإعلان التعبئة الكاملة لقوات الاحتياط، بما فى ذلك احتياطى القوات الجوية وأربع فرق مدرعة هى قوام الجيش المقاتل، وكذلك القوات المساندة لها، وقدر مجموع القوات المطلوبة بمائتى ألف جندى.
معروف أن عقيدة مهاجمة مصدر الخطر فور اكتشافه، بتوجيه ضربات استباقية، مستقرة فى العقل الإسرائيلى عامة وفى العقيدة العسكرية الإسرائيلية على وجه الخصوص، ومحظور مخالفتها باعتبارها ضرورة وجود. ومع ذلك، فإن من قام بتأليف (أو بتزييف) تلك الوثيقة، زعم أن موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى وقتها، رفض اقتراح رئيس الأركان، وبرر رفضه بأن صورة إسرائيل ستهتز أمام الرأى العام الدولى لو كانت هى الطرف الذى بدأ الحرب. وكما فات على مَن اختلقوا تلك الوثيقة أيضًا، أن جولدا مائير، التى كانت تترأس ذلك الاجتماع المزعوم، حين قال لها صحفيون سنة ١٩٦٧ إن الغارات الجوية على مواقع المدنيين فى مصر تثير الرأى العام الدولى ضد إسرائيل، قالت بالحرف: «الرأى العام الدولى لا يعنينا ولن يكون مدفعًا موجهًا إلى صدر إسرائيل».
ما ينسف ما جاء فى هذه الوثيقة، هو أن رئيس الأركان الإسرائيلى عوقب بالعزل بعد هزيمتهم فى الحرب، بينما نجا وزير الدفاع، وكان من المفترض طبقًا للوثيقة المزعومة، أن يكافأ الأول على اقتراحه، ويعاقب الثانى على تقصيره ورفضه الاقتراح. ولو تجاهلت فرضية اختلاق (أو تزييف) تلك الوثيقة التى تم نشرها منذ شهر، وتلك المنشورة منذ ست سنوات، فإنك ستخرج منهما، حال كونهما صحيحتين، بأن الإسرائيليين كانوا (وما زالوا) عاجزين عن الإجابة على السؤال: هل كان عميلًا لهم أم عميلًا مزدوجًا، قام بتضليلهم لصالح مصر؟
لو سألتنى عن رأيى الشخصى سأقول إنك تظلم الرجل حين نحاول تلخيصه فى ذلك السؤال، ونقفز على مناطق شائكة كثيرة فى حياته، ونتجاهل أدوارًا شديدة الأهمية والتأثير لعبها الرجل، أجاد خلالها السير على الحبال أو خيوط الخطر الرفيعة، وأسلاك الكهرباء العارية، بل إنه كان يجيد الرقص عليها. وتمكن من اللعب مع (والتلاعب بـ) المخابرات البريطانية، الأمريكية، وأجهزة مخابرات أخرى، نعرف بعضها، ولا يعرفها كلها غير الله، وربما المخابرات العامة المصرية. وعليه، ولأسباب كثيرة، سنعرض بعضها لاحقًا، يمكنك ترجيح عمالة «الموساد» لحساب أشرف مروان، والقطع بلا إمكانية (أو باستحالة) حدوث العكس.