رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خيري شلبي.. فتوة الناس الغلابة

خيري شلبي
خيري شلبي

صدرت روايتي "عربة تجرها خيول" وكانت النسخة الأولى للكاتب الكبير خيرى شلبى تبعتها بنسخة أخرى لصديقي زين خيرى شلبى كان لقاء بمكتبة بمجلة نصف الدنيا ووضعت إهدائي كنسخة أولى، وبمنتهى الوعي والدقة كتبت إلى الأب الروحي لكتابتي وروايتي الأولى.. البناء العظيم خيرى شلبى مع مودتي وحبي وتمنياتي الإبداع والرقى في الفن والحياة والكتابة، كنت متأكدًا أن أخط أول إهداء وأول كلمة لمؤلف بأنني اقتحمت مناطق أشد وعورة في علاقتي بضميري ووعى؟! فكيف أهدى روايتي الأولى بمفردات تخص علاقتي بأبرز الرموز الفارقة التي تمثل مسيرة وعلامات الكتابة المصرية والعربية محددًا أعلى قمة لها ممثلة فى شخص وكتابة خيرى وكينونة الروائي خيرى شلبى وحده دون غيره؟!

فكيف وأين إذا موقع الرائد الأعظم (شيخ الرواية العربية) (نجيب محفوظ) في مخيلتي وفكري وهمومي في الكتابة وخاصة مع طرقي أولى عتابات الاحتراف ونشر أول رواية لي، قلت في نفسي وعندما نظر إلى "زين خيرى شلبى" وكأنه أراد أن يقول لي همس ممتنا معاتبا (وهل حقا خيرى شلبى بالنسبة لك أهم من نجيب محفوظ.. هو لم ينطقها صراحة ولا مسموعة، ولإزالة الشك من نفسي ونفسه، تعمدت الفصل وتأكيد رأيا، في ما هية ومشروعية وحصاد مسيرة كلا من الشيخين، الروائيين الجسورين نجيب محفوظ وخيري شلبى.. ولم أنسى تذكير زين (يا ريت يا زين ما تنساش أول لما تروح تدى النسخة لبابا) ضحك في وجهي وباح بالسر الذي لم أكن أعرفه، خلاص الرواية أطبعت وكله تمام يا عم حسين.
عارف الرواية دى علشان تتنشر، أبويا كلم إبراهيم عبد المجيد ودي يمكن لأول مرة وبعد ما قرأ الرواية كان مبسوط بيها، هاتف عبد المجيد قائلًا له: "ياد يا إبراهيم، بدل ما أنتم عماليين تنشروا لكل من هب ودب في سلسلة (كتابات جديدة) في رواية حلوة لواد صاحب ابنى زين بقراله لأول مرة اسمه حسين عبد الرحيم".
لم أتمالك نفسي من الفرحة ولا الامتنان، يومها قلت في نفسي وأنا واقف أمام زين فى قمة الخجل والغبطة: أنا أسعد كاتب في مصر كثير عليه إن خيرى شلبى يزكى كتابتي.
وقبل أن أنصرف حدقت في بعض الصحف المصرية والعربية التي تفترش مسطح مكتب زين فوقعت عيني على جريدة الحياة أتذكر الآن إنه كان يوم الأربعاء في شهر يوليو في العام 2000، وكان ودائمًا ما يقول الفلك أن يوم سعدي هو "الأربعاء" هذا منذ مولدي قلت حقًا أنه يوم سعدي وميلادي الجديد ككاتب روائي، انتشلنى زين من شرودي قائلاً: تأخذ "الحياة"
ــ آخذ الحياة .. ؟! شكرًا لك،
ــ (فيه قصة جديدة لأبوية في ملحق آفاق؟)
ــ أنا متابع الملحق باستمرار وها قرائها
ــ (عنوانها بح خلاص)
                            
ومنذ هذا اليوم فقد اعتبرت وما زلت أعتقد بأن لولا خيرى شلبى ككاتب وأب روحي لي ما نشرت أول رواية لي.
قرأت قصة (بح خلاص) وهاتفت العم خيرى في الثانية بعد منتصف الليل واستمرت المكالمة لساعتين ويزيد، كنت قد عرفت من أولاده وبناته وقبلهما زوجته، أن هذا أنسب الأوقات للحديث مع الكاتب خيرى شلبى، فهو لا يفوق ولا يروق إلا بعد منتصف الليل محتشدًا للكتابة، ما بين كتابة مقالات لبعض الصحف الأدبية أو السياسية الأسبوعية، وكثيرًا ما يقضى باقية الليل فى وضع الخطوط العريضة، أو المسودات، أو فيش، أو تدوين بعض الملاحظات وخطها استعدادا وشروعا في كتابة جديدة، قرأت "بح خلاص" أكثر من أربع مرات فتشممت روائح طبخ عتيق بنكهة وبخر وتأويل مختلف ومنتقى يؤكد فرادة وعتاقة وسهولة وإحكام السرد القصصي في معزوفة قصصية استحوذت بمساحتها على نصف ملحق (آفاق) وكذلك استحوذت على كافة حواسي حتى لحظاتي هذه في الآني، القصة كانت تجتر ثمة سيرة وجع مرعب فى طرح يوم (الطبيخ) في حياة أسرة فقيرة من ضمن ملايين الأسر في ريف ونجوع وقرى مصر التي تحيا على هامش الحياة، وكم شعرت بالآسى والحزن والانقباض لكون هذه القصة قد أحالتني بحتمية لأجتر سيرة أبى وأمي في الزمن البعيد وقت التهجير عندما نواجه شظف العيش في إحدى قرى محافظة الدقهلية (البصراط) التي كانت إحدى المحطات الهامة في تاريخ ترحيل عائلات الطبقة الوسطى في منطقة القناة وقت حروب ( 1956، 67، 73).
قلت لعم خيرى يومها في الهاتف (عم خيرى، كأني بشم ريحه طبيخ فعلا وشوربة ولحم، وما كل هذا الآسى والحزن والفقر الشفيف في سردك، فهؤلاء الأطفال والصبية، كوم اللحم البرئ الملتف في دائرة محكمة حول الوعاء (الحلة) في انتظار أن تنتهي الأم من طبخ الوجبة الأسبوعية بعد مغارب يوم خميس.
ــ جميل يل حسين بس للأسف (بعد التقليب اتضح أن مفيش لحمة)؟! 
ــ زين كلمني عنك كتير روايتك حلوة، بس متشظية أكتر من اللازم، ولكنها تجربة جديرة بالقراءة (حلو التجريب)
ــ أنت درستك إيه معاك إيه يعنى
ــ معايا إعلام ودارس فنون بس مركز في السينما أكتر 
ــ عارف، الكلام اللي سمعته منك أسعدني كتير
(عارف يا أخي صحابنا بتوع الستينات ولاد ال.....، عمر ما واحد فيهم ما كلمني على عمل زى ما أنت كلمتني، لو الرواية وحشة وده مبيحصلش يشنعوا عليه في الوسط بخبث، لو الرواية عجباهم  يتخرسوا ولا واحد فيهم يهمس بكلمة، هو بس إبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد، مش عارف ليه يا أخي، ( أنت عارف إن أنا سميت زين على اسم (بهاء طاهر)، ما هو زين اسمه في الأصل بهاء، يلا (ربك كريم).
تطورت العلاقة وزادت الحميمية بيني وبين عم خيرى شلبى وزرته في البيت أكثر من مرة فأحببت زوجت (السيدة الفاضلة) وكل أولاده زين وإسلام، وريم وإيمان واعتبرتهم جميعا أسرة منتقاه ومشتهاه لنفسي ووجداني واعتبرت هذا البيت بكل من فيه هو قاعدة خصبة ومتينة ومستقرة في آن ستعينني على وضع قدمي بثقة وبرحابة في حياتي الجديدة اجتماعيا وإبداعيا وحتى فكريا، ولما لا وأنا قد تأثرت تأثيرًا جمًا بعلاقة الروائي الكبير خيرى شلبى، بالعالم وبالفكر وبالثقافة وبالإبداع في كافة مساراته مع أهل الطرب والتطريب والنغم والموسيقى والشدو مع العشاق والحالمين وأهل الطريق وأهل الهوى جوهر الفن في قلب الحياة التي صارعها خيرى شلبى بفتوة ودون مهابة ولا مخافة، بجسارة بلا تردد فتغلب علية، مستخلص من عذابات السنين ومرارة التجارب وعبث الحياة، لآلئ ودرر، ليست صدفة، وصداقاته عن قرب وعن بعد وفى خطوط وعناوين وأعمال وتجارب ــ من قراء لهم وعنهم وتأثر بهم ولم يكن لهم ثمة طغيان أو تأثير على منحى وجزالة وتفرد كتابته، سواءً من كانوا في أمريكا اللاتينية أو الجنوبية أو أي مكان في العالم طرح أو أنتج كتابه ومبدعية بخصوصية وشمولية رؤية معاناة وعذابات وحيرة من كتبوا عنهم أو تبنوا قضاياهم وآلامهم في كل بقاع الأرض منحازين لصالح الإنسان سواءً فى الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب، أو فى بلاد العرب وحتى العجم، أحب خيرى شلبى (جورج أمادو) البرازيلي (أرنست همنجواي) (توماس مان) (هرمان ميلفل) (هرمان هسه) (جونتر جراس) (ليو تولستوي) (هنري ميلر) والبرتغالي (جوزيه سارا ماجو)، وشيخ الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ الذي كان الأب الروحي للكاتب الكبير خيرى شلبى حيث أتخذ من حياته وأعماله وأبنيته المشيدة بجسارة لفتوحات الرواية العربية الحديثة والمعاصرة وكذلك السوري (حنا مينا).
وهذا يؤكد قوة التشييد والبصيرة المحكمة لفضاءات رواة العالم والمروى عنهم في سكك ومحطات وإضاءات وعلامات واختيارات الروائي العصامي الثقافة والتحصيل، الميت الحي الذي أنتج للمكتبة العربية أكثر من 70 مؤلف ما بين الرواية والقصة والمسرحية والشعر ونقده، وصنوف أخرى في النقد، وفن البورترية وصبغته وتجلية.