رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إهانة الرموز التاريخية


من المزمع أن يناقش البرلمان فى دورته الرابعة مشروع قانون تحت مسمى تجريم إهانة الرموز التاريخية والوطنية بهدف الموافقة عليه، حيث إن المشروع ينص فى مواده على الحبس لمدة سنتين إلى خمس سنوات وغرامة تصل إلى نصف المليون جنيه لكل من يهين رمزًا تاريخيًا أو وطنيًا، وفى حالة العودة يكون الحبس لمدة سبع سنوات.
شاهدنا هذه الأيام كثيرًا من مثل هذه المشروعات التى تهدف إلى لفت الأنظار بهدف إحداث شو إعلامى يسهم فى استضافة هؤلاء فى وسائل الإعلام المختلفة، خاصة أن جلسات البرلمان لم تعد تذاع على الهواء مثلما كان يحدث سابقًا، ناسين ومتناسين تلك القضايا والمشاكل الجماهيرية التى تمس حياة المواطن، ومتغافلين عن ضرورة إجراء حوار مجتمعى حقيقى وليس شكليًا يُدعى له أصحاب المصلحة من الجماهير لأهمية هذا التشريع وما يمثله لهم من إضافة أو مساهمة فى حل مشاكلهم والبت فى قضايا حياتهم، حيث إن القانون إذا لم يكتسب مصداقية جماهيرية وتكن له أرضية مطلبية ورضائية لدى الجماهير فلا قيمة لهذا التشريع. نرى الآن أن هناك كثيرًا من القوانين ذات الأهمية التى لا ينكرها أحد ومع هذا لا تجد لهذه القوانين أى تطبيق على أرض الواقع. مثل قانون البناء على الأراضى الزراعية أو قانون المرور، وكثير جدًا من القوانين التى لا نرى لها تطبيقًا أو التزامًا جماهيريًا، الشىء الذى يفقد المنظومة التشريعية فاعليتها اللازمة والواجبة التى تمثل الأسس الرئيسية لدولة القانون. يقول صاحب المشروع ومن يؤيده من نواب البرلمان إن الإساءة للرموز التاريخية والوطنية هى إسقاط لتاريخ مصر وإحداث بلبلة لدى الرأى العام، وأن يفقد الشاب المثل والقدوة التى يجب أن يقتدى بها.. هنا نقول: نحن مع أن تكون هناك نماذج وشخصيات تمثل ذلك المثل وتلك القدوة للشباب. ولكن مبدئيًا لماذا نصدّر للشباب وغير الشباب أن هذه الرموز وتلك الزعامات فوق البشر وأنها لا تُخطئ وأنها مقدسة ولا يجب الاقتراب منها بالرأى والتقييم؟ فهل هناك بشر مقدسون؟ وهل هناك من لا يخطئ من البشر؟ فالإشكالية هنا هى الحديث عن التاريخ المدرسى الذى لا علاقة له بالتاريخ فى إطاره العلمى والأكاديمى، فالتاريخ المدرسى هذا يخضع للرؤية السياسية التى تراه كما تريد فى إطار سياسى بعينه.. نعم هذا بهدف تعليم الطالب أن يأخذ هذه الرموز قدوة، ولكن الهدف ليس الانتماء لهؤلاء الأشخاص بأعينهم بقدر أن تكون هذه الرموز قد قامت بفعل وطنى للوطن وليس لمصلحتها وفى ظروف وواقع موضوعى بذاته. وهذا لا يعنى أن هذا الرمز الوطنى المنتمى لبلده والذى قدم الخدمات لوطنه أنه فوق البشر وأنه مقدس ولا يخطئ، ولكن يجب أن نأخذ الجانب الإيجابى ولا نستطيع أن نسقط الجانب السلبى له كبشر يخطئ ويصيب، هنا نكون قد أسسنا لتعليمنا فكرة البحث والتقييم الموضوعى والعلمى بعيدًا عن تقديس الأشخاص أو الاعتماد على الارتباط العاطفى الذى يمكن أن يتغير، فتكون النتائج وخيمة فى غير صالح الانتماء والوطن، مع العلم بأن التاريخ كائن متحرك تتم إعادة قراءته كل مرحلة عند اكتشاف وثائق أو مصادر أو حقائق يمكن الاعتماد عليها، فلا استقلال فى التأريخ للمؤرخ، فهو ابن مصدره ووثائقه ورؤيته وتقييمه الذاتى فيما تتعدد الرؤى وتختلف الآراء تجاه حدث تاريخى واحد، فكل مؤرخ يأخذ الحدث من زاوية معينة معتمدًا على مصادر بذاتها، فتحقيق التاريخ لا يكون بغير تعدد الآراء واختلاف المصادر، كما أن الرمز للبعض لا يمثل رمزًا للآخرين، والرمز فى مرحلة بذاتها لا يعد رمزًا بعد ذلك، وبعد العثور على وثائق ومراجع تسهم فى إعادة قراءة هذا الرمز، ولذا لا يستطيع أحد أن يحدد تحديدا قاطعا ومانعا لتعريف هذا الرمز. كما أننا لا نعلم ما الأسس التى سيبنى عليها أسس التجريم لهذه الإهانة؟ فهل كل من يتحدث عن مصدر تاريخى يصم هذا الرمز بشىء سلبى تكون هذه إهانة؟ يعنى عندما نتحدث عن أن سعد زغلول كان يعاقر الخمر ويلعب القمار وغير ذلك نكون قد أهنا سعد؟ مع العلم بأن هذه المعلومات هى من كتبها سعد ذاته. أحد النواب فى برنامج تليفزيونى صعق عندما سمع هذا الكلام وهو نائب الشعب، وقال: «لقد صدمنى هذا الكلام، حيث إن سعد بلدياتى ونفخر ونعتز به أيما فخر واعتزاز».. وهذا النائب لم يقرأ حتى مذكرات سعد بلدياته، كما أن علاقته بهذا الرمز عاطفية لا علاقة لها بالموضوعية أو العلمية، وهل عندما يعتمد باحث أو مدقق أو مواطن على مصدر محلى أو عالمى على معلومة سلبية لدى من نعتبرهم رموزًا تكون هذه إهانة تستوجب الحبس والغرامة؟ وهل تاريخ مصر الخالد والعريق والضارب فى جذور الزمن يسقط عندما يتصور أحد أن هناك إهانة لهذه الرموز؟ أعتقد أن تاريخ مصر أكبر وأعظم من أن تسقطه أى إهانة لرمز من الرموز، فهل هناك رمز واحد لا توجد له أخطاء أو سلبيات؟، نعم هناك من تطاول وتهجم وأهان بعض الرموز مثل عرابى وصلاح الدين، هنا نقول لا وألف لا. فلا يوجد فى البحث العلمى أو التقييم الموضوعى أو إبداء الرأى الشخصى ما يسمى إهانة، فالإهانة مرفوضة تمامًا، وهذا غير الرأى العلمى الذى يعتمد على المصادر والمراجع والوثائق، وكم تم سب وقذف وإهانة عبدالناصر، ولكن لم يحبس أحد نتيجة لهذه الإهانة، ولكن ظل وسيظل عبدالناصر باقيًا بمواقفه وأعماله وإنجازاته، مع العلم بأن هذه الإهانات وتلك الزعامة لا تعنى ولا تلغى أن يكون هناك رأى آخر ضد عبدالناصر ويرفض ناصر والناصريين، ولكن هذا لا يعنى الحبس، بل يعنى الرد على الرأى بالرأى الآخر بالحوار والنقاش، بالتعليم والتثقيف ورفع درجة الوعى الجماهيرى. ولكن أن نشرع قوانين يفهم منها أنها ضد الرأى وحرية الكلمة مثل هذا المشروع وقانون ما يسمى ازدراء الأديان فهذا لن يكون فى صالح لا المواطن ولا حرية الرأى ولا النظام ولا الوطن. فالإهانة والسب والقذف لها القانون الجنائى الذى يجرم هذا.. وهذا يكون مع الأشخاص والرموز الباقية، حيث إن السب يمثل إهانة للشخص فى مجاله الاجتماعى.. ولكن الشخصية التاريخية هى ملك التاريخ والوطن، بل العالم كله.. هنا يكون الرد العلمى والموثق. مصر وتاريخها لا ولن يؤثر فيهما مثل هذه التصورات. حمى الله مصر والمصريين.