رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بلقيس

وداد معروف
وداد معروف

استيقظ من نومه مبتسمًا، فما زال يستشعر دفئها ويغمره سحرها، جلس نصف جلسة أسند رأسه لقائم السرير، يقطف من حلمه الجميل وعند قطفة لذيذة قال: ماذا تريدين منى يا بلقيس؟ كأن شمسًا طلعت من بين الأمواج أضاءت عتمة عمرى، كان عناقًا رطبًا حانيًا صحوت فلم أجدك بين يدى. عدت مرة أخرى تسبحين وتركتنى؟
وقعت عينه على المنبه قام مسرعًا ليلحق بعمله، تترائى له يتابعها. رفع صوت المذياع ففاتنته ستشغله عن الطريق بتثنيها المغرى، ألقى السلام على زملائه، لمح من بعيد امرأة ذات قوام سمهرى.. اقترب فالتفتت للقادم. نظرة واحدة لوجهها أدخلته مرة أخرى لنفس الأجواء التى استيقظ منها، أفاق على صوتها تسأله: حضرتك الأستاذ زياد مدير المؤسسة؟
صمت ليسمع هذا الصوت مرة أخرى، أعادت السؤال، قال لنفسه: «هو صوتها بنغماته الطروب».
- نعم، أنا هو سيدتى.
أشار لها لتدخل وقرّب لها المقعد، ترك مكتبه وجلس قبالتها، لم يصدق «تركتها تسبح بلباس البحر» هل تبعتنى إلى هنا أيضًا؟ تطورت حالتى فصرت أهذى بحلمى فى يقظتى! ماذا لو دخل على أحدهم ووجدنى أحدث نفسى؟
لاحظت صمته وسرحانه فقالت وهى تخرج من حقيبتها ورقة: أستاذ زياد هذا خطاب نقلى إلى مؤسستكم أرجو أن تعتمده، قرّبته من يده امسكه وهو يحدث نفسه: «ليس حلمًا إذن فهذه الورقة مستند على ذلك، إذن وجدت بلقيس أخيرًا».
بضحكة مشرقة رحب بها قائلًا: أهلًا بك أستاذة بلقيس.. هز رأسه مستدركًا: آسف أستاذة رضوى، أنت إضافة للمؤسسة. ماذا تشربين؟
- لا.. لا.. لا شىء أشكرك.
دخل الساعى قال له: احضر كل ما عندك من مشروبات الآن.
ضحكت مندهشة وقالت: لم كل هذا؟ يكفى كوب من الشاى.
ظل يتحايل لعينيها طويلًا ويقارنها بأنثى أحلامه، لم تختلف عنها فى تقسيمة واحدة كلها هى أسطورة أحلامى، نفس الجمال الملكى السامى تام الحسن، حتى جلستها جلسة ملكات. كلما رشفت رشفة من الفنجال تشرب منها بعينيه، استبطأت توقيعه، أحس بتململها فأسرع ووقعه، ناولها الإقرار وهو يقول: سعدت بوجودك يا بلقيس!.
ضحكت مستغربة الاسم، أما هو فلم يستغرب ضحكتها المموسقة، تطرب ليله دائمًا هذه الضحكة، مضت تتبعها عيناه حتى غابت، ولم يكن عاديًا أبدًا أن يلتقى بلقيس بعد كل هذه السنوات ويتركها، فخلق الحجج والمبررات ليكون قريبًا منها دائمًا، لم تبتلع هذا الاقتراب ولا ارتاحت له أبدًا. فاهتمامه بها لفت انتباه زملائها، ما إن يدخل المكتب حتى تحاصرها الأعين، ثم ما هذا الاسم الذى يصر على مناداتى به؟ ومن هى بلقيس تلك؟ هل هى زوجته توفيت ويرى فىّ شبه منها أم حبيبة فارقته وما زال يحتفظ بملامحها فى عينيه، صممت أن تفاتحه فى كل تلك المؤرقات.
بينما كانت تنهى بعض الأوراق فى مكتبه وهى تهم بالانصراف ناداها: بلقيس انتظرى أريد أن أتحدث معك.
قالت باعتزاز: أنا اسمى رضوى لست بلقيس.
وضع عشقه كله فى عينيه وهو يقول: أعرف.. وأعرف أنك تتعجبين من مناداتى لك بهذا الاسم، وقد لا تصدقينى لو قلت لك إنى أعرفك جيدًا وأحفظ ملامحك هذه قبل أن أراك. حينما جئت هنا لأول مرة كنت رأيتك قبلها ألف مرة.
رفعت حاجبيها باندهاش وقالت: لقد زدت الأمر تعقيدًا وإلغازًا.
وستزيد حيرتك لو أخبرتك بأنى كنت أنتظرك وعندى ثقة أنك ستأتين يومًا ما. حتى صار انتظارك متعة لى وطقسًا من طقوس قليلة تسعدنى.
بصوت هامس كسول قالت: كل هذا الانتظار لى أنا، أسطورة لشاب مثلك! بينى وبينك فارق عمر كبير.
- أما أنا فأراك عروسًا لم تذهب برونقها الأيام.
- كيف؟ وأنا أرملة وأم لصبيتين! لكنى أراك بغير العين التى ترانى بها.
وهو ينظر لفمها الجميل وهو يساقط الألفاظ قال: رضوى دعينى أحبك.. دعينى أراك.. أتأملك.
لملمت الأوراق من أمامه وهرولت سريعًا إلى الباب، تحاشت لقاءه بعدها، تدس رأسها فى الأوراق فى موعد زيارته اليومية للقسم، لاحظ هروبها منه، أتعبه صدها وأبوابها الموصودة، فأرسل لها على هاتفها: سأظل أحبك حتى يشيب شعرى وينحنى ظهرى وتتجعد ملامحى.
توهجت الرقة التى تسكنها، لكن ظل عقلها يرفض هذه المشاعر، لم يدر بخيالى يومًا ما أن أكون أنثى أحلام لشاب فى هذه السن، يقترب من الثلاثين بينما أنا فى بداية الأربعين، لست من هؤلاء النسوة اللاتى يجدن فى هؤلاء الشباب تجديدًا لأعمارهن، لن أدعه يسترسل فى مشاعره.
نطق تليفونها بنغمته وجاء صوته كوشوشات القمح: لم تهربين منى يا بلقيس؟
بصوت نحاسى قالت: لتنجو منى وأنجو منك.
- هل تظنين أنى لا أقاوم يا بلقيس؟
- مصمم أنى بلقيس.
- هل عندك شك؟ والله أهرب منك هروب الجبناء وأنا أكره الجبن، مهلًا على يا بلقيس لا تستعملى قسوتك.
لمستها الكلمات فقالت: ما فيها لتفتن بها؟
وجاء سؤالها أغنوجة له فقال: هى صاحبة القصر المرصود هى عشتار ونفرتيتى هى بلقيس، هى معى فى حلمى كل ليلة، كل ليلة يا بلقيس!.
- بشغف قالت: كيف تكون؟
- أبحث عنك فى جنبات الأرض حتى أجدك على موجات البحر أجرى إليك فأدثرك بما ألبس. فتنظرى لى فتشرق شمسك يا رضوى فتدفئنى وتهدهدنى وأعانقك بقوة حتى لا تتركينى مرة أخرى.
اختلجت مشاعرها لم تعد تدرى ما تقول له، امتلأت نشوة وأحست ألق اللحظات الحلوة، أبت أن تسترسل فيها، صوت عقلها يعلو شيئًا فشيئًا، لن أدعه يسبح فى قوارب أحلامه. لن أصد مشاعره اليوم لكن سيكون أمرًا آخر غدًا.
وفى الصباح كان طلب نقلها على مكتبه ينتظر التوقيع.