رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"صانع البهجة".. كيف صنع محمد صلاح أسطورته؟

محمد-صلاح مع عائلته
محمد-صلاح مع عائلته

- الدستور تنفرد بنشر كتاب د. محمد المهدى عن محمد صلاح

لست من المغرمين بكرة القدم كثيرا، ولا أحفظ أسماء كثير من اللاعبين، ولا تسمح لى ظروف مهنتى بأن أشاهد الكثير من المباريات باستثناء المباريات النهائية فى الدورى أو الكأس أو كأس الأمم الإفريقية أو المباريات النهائية فى كأس العالم.
وبالتالى لم أكن أتخيل أننى سأكتب كتابا عن لاعب كرة.. فعلى الرغم من تقديرى لكرة القدم كرياضة جميلة ولعبة جماعية فيها قدر كبير من الفن والتخطيط والتنظيم والجهد والجمال، وفيها قدر كبير آخر من المتعة للناس والانتماء اللذيذ مع بعض التعصب للأندية، فإنها مجرد لعبة رياضية لا ترتقى بسببها الشعوب ولا يقوم عليها الاقتصاد، فأنا أرى الأهمية القصوى للعلم والدين والاقتصاد والقيم فى نهضة الأمم.
والسبب فى أننى تجاوزت كل هذه الاعتبارات وقررت الكتابة عن محمد صلاح، لاعب الكرة العبقرى الشهير، هو أن «صلاح» تجاوز فكرة أنه مجرد لاعب كرة قدم يمتع الجماهير بأهدافه الجميلة، فقد أصبح أيقونة للنجاح النظيف وللجهد والعرق والمثابرة والطموح بلا حدود والتطور بلا سقف والقيم الهادئة النبيلة المعتدلة الأصيلة والعميقة والأخلاق الراقية والسيرة النظيفة.
ونجح محمد صلاح بسبب كل هذا فى أن يعيد للقيم اعتبارها وللأخلاق مكانتها وللكفاح منزلته وللحلم قيمته، ورفع اسم مصر عاليا فى وقت سادت فيه الانكسارات والأزمات، ووحد المصريين حوله فى وقت احتدت فيه الانقسامات على أسس دينية أو سياسية وأعطى القدوة للشباب فى زمن انهارت فيه القدوة وسقطت الرموز.
وبما أننى أعمل فى مجال الطب النفسى وصناعتى التأمل فى تضاريس النفس البشرية وقراءة النص البشرى، رأيت أننا أمام نموذج إنسانى متميز وعالى الجودة على الكثير من المستويات ويستحق تسليط الضوء على جوانب عبقريته ليكون نموذجا حيا أمام الناس، وخاصة الشباب لجديته وعزيمته وإصراره ونقائه وتفانيه وإخلاصه.
وفى الحلقة الأولى أحاول أن أبحث عن إجابة سؤال: ما هو السر وراء هذا الصعود المطرد والسريع لهذا الشاب الريفى البسيط؟.

مستقيم لا تغويه الشهرة.. خلوق يتقى الشُبهات.. ويقدس العمل
يتمتع محمد صلاح بمجموعة عبقريات على مستويات نفسية متعددة، أسهمت فى صنع أسطورته وعشق الجماهير من مختلف أنحاء العالم له وأرصدها هنا كما يلى:
عبقربة الاستقامة: هى أحد عوامل النجاح المهمة عند محمد صلاح، فحياته تتسم بالانضباط الشديد والالتزام المهنى والأخلاقى والشخصى، فعلى الرغم من نجاحاته المبهرة وعبقريته الكروية العظيمة وشهرته ونجوميته وكاريزمته، فإنه لم ينجرف مع ما انجرف إليه من هم فى مثل هذه الظروف أو حتى أقل بكثير. فلديه حالة ثبات عجيبة أمام إغراءات وإغواءات الشهرة والنجومية، ولديه موقف متواضع فى كبرياء تتحدى كل إغراءات الغرور وانتفاخ الذات، وهذه عبقرية أخرى تضاف إلى عبقريته الكروية.
ويشير عمدة قريته إلى هذا البعد المهم فى شخصية صلاح بقوله: «إن صلاح ورغم احترافه فى أكثر من نادٍ أوروبى مازال يصر على قضاء إجازته السنوية فى مسقط رأسه، ولا يتأخر عن مشاركه أبناء القرية فى أفراحهم وأحزانهم، ودائمًا يحرص على قضاء العيد وسط أسرته وأصدقائه، فضلا عن قيامه بأعمال الخير فى القرية»، مضيفا أن «صلاح ومنذ عهدناه طفلًا لم نشاهده إلا مواظبًا على الصلاة وقراءة القرآن والمشاركة فى المناسبات الاجتماعية التى تخص أبناء قريته، كما لم نشاهده يومًا ما متورطًا فى مشاجرة أو متلفظًا بلفظ غير لائق، فلم نر منه إلا كل خير وكل جميل».
عبقريته الأخلاقية: وتتبدى فى قدرته على الاحتفاظ بتوازنه أمام بريق وإغواءات الشهرة والنجاح، وقدرته على الثبات والتوجه مباشرة نحو أهدافه فى تحقيق أعلى مستوى من الأداء يتجاوز به كل المستويات المعروفة محليا وعالميا، ويجعل النجوم العالميين يتراجعون وراءه واحدا بعد الآخر، وهو منطلق كالصاروخ نحو هدف لا يعرفه أو يتوقعه أحد. فيبدو أن سقف طموحه أعلى بكثير مما يتوقعه الناس.
وعلى الرغم من كثرة معجبيه وكثرة أسفاره وتحركاته وصوره، لم تلتقط له أى صورة فى وضع غير مناسب، وغالبية صوره تراها فى الملاعب مع الكرة، أو يداعب ابنته «مكة»، أو يزور الأهرامات أو أمام برج إيفل، أو يصطاد سمكا، أو يسبح فى الماء وحيدا، أو مع أطفال قريته.
عبقرية الوقت: وتظهر فى انطلاقته السريعة جدا من طفل يلعب الكرة فى قريته الصغيرة، ثم ينتقل إلى نادى المقاولون العرب، ثم يدق على أبواب أندية الدرجة الأولى مثل نادى الزمالك، وحين لم يوفق فى الالتحاق به، تطلعت عيناه اليقظتان المفتوحتان عن آخرهما إلى الآفاق العالمية والاحتراف الدولى، وحين يصل إليه لم يركن إلى مكانته فى ناد واحد، وإنما ينتقل وبسرعة من ناد إلى ناد أفضل.
وانتقالاته ليست اندفاعات متهورة، أو تقلبات انفعالية، أو خلافات مع الإدارة، أو قفزات فى الفراغ، أو عقوبات فنية أو إدارية، وإنما نقلات محسوبة ومتوجهة نحو المعالى والتميز ثم التميز الأعلى بلا نهاية. فهو لا يضيع لحظة دون عمل وإنجاز على طريق يرى بداياته ونهاياته بوضوح شديد، ولا يلتفت يمينا أو يسارا إلى شىء يعطله ولو لحظة عن تحقيق هدفه.
ولا يتخيل أحد كيف كان محمد صلاح وهو طالب صغير يخرج من مدرسته كل يوم فى العاشرة صباحا بإذن خاص من إدارة المدرسة لكى يسافر على أربع مراحل من قريته إلى نادى المقاولون العرب ليتدرب هناك، حيث يقطع المسافة فيما لا يقل عن ثلاث ساعات ذهابا ومثلها إيابا، ويكرر ذلك لسنوات بإصرار عجيب، مع ما يمثله ذلك من إرهاق شديد وحرمانه وهو لايزال طفلا مما يتمتع به أمثاله من اللهو واللعب أو حتى الراحة والاسترخاء.

ابن أصول بار ببلده.. يتجنب الصراعات والاستقطابات السياسية والدينية.. ويحافظ على صحته
عبقريته الأسرية: تتبدى فى استقراره الأسرى من حيث انتماؤه لأسرة مصرية ريفية بسيطة واعتزازه بذلك الانتماء والارتباط القوى بأسرته وقريته ووطنه، وارتباطه بزوجته وابنته على الرغم من دوائره العالمية التى تتسع يوما بعد يوم ومعجبيه ومعجباته الذين يملأون الدنيا ويتشوقون إلى نظرة منه. وهذا الاستقرار الأسرى ربما يحميه من انزلاقات كثيرة يقع فيها من هم فى مثل ظروفه ويكلفهم ذلك تضييع الكثير من طاقاتهم ووقتهم وتميزهم.
ومن المعتاد فى الأسر المصرية التقليدية أن تقف أمام انشغال أبنائها بلعب الكرة وتعتبر ذلك ضياعا لوقتهم وانشغالا عن دراستهم التى يعتبرونها أهم من ممارسة أى رياضة، ولكن هذا لم يكن موجودا فى أسرة محمد صلاح، إذ كان والده يشجعه على تحقيق حلمه، على الرغم من أن هذا الحلم لم يكن واضحا فى ذلك الوقت.
وقد حرص صلاح على أن يصطحب والديه وإخوته إلى أوروبا، وأن ينزل من أوروبا عام ٢٠١٣م زاهدا فى فتياتها ليتزوج فتاة محلية من القرية هى ماجى محمد، صديقة طفولته، وينجب منها ابنة سمّاها «مكة» (ذلك الاسم الذى يعكس الخلفية الدينية لدى صلاح وزوجته)، ليشكل هذا الكيان الأسرى قاعدة انطلاق ثابتة وراسخة، ولكى تحميه هذه الدائرة الأسرية من مغريات وغوايات الحياة فى أوروبا، خاصة لمن هم فى مثل شهرته.
ومن حسن حظه أنه نشأ فى أسرة كروية، فوالده كان لاعبا مميزا وعمه وخاله كذلك، وكان الثلاثة يلعبون فى فريق القرية، ويتمتعون بمهارات عالية. وتربى محمد صلاح وسط عائلة تعشق وتقدر كرة القدم، ولاحظ والده موهبته منذ البداية فشجعه وتعب معه كثيرا، وكان يتحمل عناء اصطحابه وهو طفل من نجريج فى محافظة الغربية إلى القاهرة، حيث نادى المقاولون العرب، وظل يدعمه حتى وصل إلى العالمية، وكأن القدر ساق محمد صلاح ليحقق طموحات أسرته الكروية.
عبقرية انتمائه: فهو دائم التردد على قريته، خاصة فى رمضان مع عطاءات مادية ومعنوية كثيرة لأهل قريته، فأعطى تبرعات لمدرسته القديمة، وهدايا لأطفال القرية، وساعد فى شراء مستلزمات الزواج لعدد من الشباب الفقراء، وهو يفعل ذلك فى صمت، ولم يؤده وجاهة أو مدحًا أو شهرة، فهو فى غنى عن كل ذلك، وإنما فعله لبذرة خير فى داخله ولشعوره الدائم بالانتماء لهذا المجتمع القروى البسيط والصغير.
عبقريته فى البعد عن الصراعات المستنزفة للطاقة: فلم نره يدخل فى حوارات أو منازعات أو خلافات أو استقطابات مجهدة مع أحد، فهو يضن بوقته وجهده على أى شىء من ذلك، إذ لا يوجد لديه وقت يضيعه فى أى شىء من ذلك، وبالتالى حافظ على كل وحدة طاقة وعلى كل وحدة زمن ليندفع كل يوم إلى تحقيق تميز جديد والارتقاء إلى مستويات أعلى وغير متوقعة فى الأداء.
عبقريته فى البعد عن الاستقطابات السياسية أو الدينية: إذ تعلم صلاح الدرس من نجوم سابقين، فنأى بنفسه عن أى تصريحات أو سلوكيات تجعله محسوبا على تيار سياسى أو دينى معين، فظل محبوبا ومقبولا ومعشوقا من الجميع كبارا وصغارا.
عبقرية الحفاظ على صحته: فمن المعروف عنه أنه يهتم بكل تفاصيل حالته الصحية، فلا يسهر ولا يدخن ولا يتعاطى أى شىء يؤثر فى سلامته النفسية والجسدية، ولا يقضى أوقاتًا مع شلة تأخذه يمينا أو يسارا، وليست لديه علاقات جانبية تستنزف طاقته النفسية أو الجسدية أو تشتت وعيه وانتباهه وتركيزه، فتراه دائما فى صحة جيدة وفى حالة تركيز وانتباه ويقظة، وهذا ينعكس فى سرعته الفائقة فى الملعب وانتباهه الحاد لكل حركة تحدث من حوله وسرعة إدراكه وتصرفه فى المواقف الحرجة، وانتهاز الفرص للتسديد الموجه بدقة.
عبقرية عصاميته: فهو قد شق طريقه محليا وعالميا بمجهوده الشخصى وموهبته المتفردة تماما، ولم يستفد من أى توصية أو أى وساطة أو أى مساعدة من هذا أو ذاك. وهو كأى عصامى هاجسه الصعود الدائم والمستمر، فهو لا يتوقف عند مستوى معين من النجاح ويكتفى بذلك ويستريح ويجنى ثمرة نجاحه فى رفاهية العيش والتمتع بحب المعجبين والمعجبات، ونيل حظ نفسه من متع الدنيا، خاصة أن شهرته ونجوميته منحتاه مالًا وفيرًا وحبًا جارفًا وانبهارًا تأخذ بالألباب وتهز النفوس وتزلزل ثباتها وتخل بتوازنها، ولكنه لم يفعل ذلك، وربما لم يلتفت إليه فكأنه جاء إلى الحياة بشكل أسطورى ليؤدى مهمة عظيمة، وعيناه مركزتان على هذه المهمة ولا يكاد يرى ما حوله من مغريات، وكأنه زاهد فى كل شىء إلا نجاحه وتميزه، وكأنه ناسك فى محراب الكرة، ومنصرف عن كل التعلقات والشواغل والمغريات، ومتبتل فى مهنته التى هى- لحسن الحظ- هوايته ومعشوقته.

أيقونة للنجاح.. متواضع لم ينس نفسه وبطل قومى خرج من رحم الأزمات
عبقرية أيقونته ورمزيته: محمد صلاح لم يعد مجرد لاعب كرة يهتم به من يعشقون كرة القدم أو يتابعونها، بل تجاوز هذا بكثير، بحيث أصبح أيقونة نجاح عظيمة ومبهرة ورمزا لكل ما هو جميل فى حياة أى شاب مصرى عربى مسلم، وأصبح يجسد كل قيم الكفاح والصمود والنقاء والكبرياء والتواضع والشموخ والعزيمة والإصرار والحب والطموح بلا حدود وكسر كل الحواجز، وانطلق بسرعة صاروخية نحو النجاح النظيف الخالى من أى شوائب، وأصبح رمزا للاستقامة والنظام والنظافة والانضباط والالتزام والوطنية والعالمية والإنسانية، فأصبح قدوة لأى شاب ليس فقط فى بلده مصر بل فى أى بلد فى العالم.
ولهذا ليس غريبا أن توضع له أغان تمجد فيه فى أكثر من بلد أوروبى وبأكثر من لغة يغنيها الكبار والأطفال.
عبقرية تواضعه: على الرغم من كاريزمته الهائلة ونجاحه منقطع النظير، وتقدمه فى مجاله بشكل سريع جدا رغم صغر سنه، وانتقاله من مجاله القروى البسيط إلى آفاق عالمية عالية المستوى، وحصوله على المال الوفير والشهرة الفائقة والنجاح المتصاعد، فإنه لم يفقد قدرته على الثبات والاتزان، ولم يفقد بساطته وتواضعه، ولم تنتفخ ذاته أو تتضخم، ولم يسقط فى بحر الغرور أو التعالى.
وهذا ينم عن تماسك نفسى عميق وثبات انفعالى هائل، وتوازن أخلاقى راسخ، وهذا شىء مذهل فى شخصيته، إذ على الرغم من حركته الواسعة والمتدفقة والسريعة نحو النجاح المتصاعد، فإن لديه هدوءا وطمأنينة وسلاما نفسيا وتواضعا توازن حركته وانطلاقته الصاروخية، وربما يساعد فى ذلك ما يتحلى به من قيم دينية، وقيم أخلاقية، وفطرة ريفية بسيطة ومستقرة، وأسرة متماسكة ومساندة وداعمة، ومتواجدة معه حتى فى أوروبا.
عبقريته كبطل قومى: جاء نجاح محمد صلاح فى ظروف قاسية مرت بها مصر والعالم العربى، انهارت فيها أخلاق الناس وتساقطت الرموز والقيادات، وسادت حالة من اليأس والإحباط والألم بسبب التقلبات والاستقطابات السياسية والأزمات الاقتصادية والمؤامرات العالمية، فكان محمد صلاح سببًا أساسيًا للشعور بالبهجة والشعور بالانتصار وبالكرامة، والأمل فى النجاح مهما كانت التحديات والعقبات والأزمات.
وأصبح محمد صلاح نبراسًا لأى طفل أو مراهق أو شاب، وأعاد الثقة إلى قيم العمل والصبر والمثابرة والصمود والكفاح وتحديد الهدف والارتقاء المستمر نحو المعالى، فانتشل الملايين من هوة اليأس والقنوط، لذلك تحول من مجرد لاعب كرة ناجح ومتفرد إلى بطل قومى وإلى رمز لكل ما هو ناجح وإيجابى وجميل وراق وأخلاقى، خاصة حين صعد بالمنتخب المصرى إلى كأس العالم بعد مضى ثلاثة عقود ومصر بعيدة عن هذا المستوى.
وتنتشر صور محمد صلاح فى طول مصر وعرضها، وأى شركة أو مؤسسة تريد جذب الأنظار لمنتجاتها أو نشاطها تضع صورة محمد صلاح، وقد جعل هذا صلاح وجهًا مألوفًا ومحبوبًا للجميع، ورمزًا للمصريين يتفقون عليه رغم اختلاف توجهاتهم، ورغم ما بينهم من تباينات خاصة بعد الثورة والفترة الانتقالية والنزاعات السياسية، فقد نجح محمد صلاح فى توحيد قلوب المصريين على ابن عبقرى من صلبهم ومن بيئتهم ومن عمق جوهرهم الحضارى.
وهو ليس فقط بطلًا محليًا بل بطلًا عالميًا ترى صوره فى أى بلد تذهب إليه على الكثير من الإعلانات والنشاطات الكروية وغير الكروية، ويؤلفون له الأغانى التى تعبر عن حب جارف. وبهذا كان لمحمد صلاح دور هائل فى تحسين صورة المصرى والعربى والمسلم فى وعى المواطن الأوروبى.