رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتمرد.. صفاء عبدالمنعم: عاش بنتًا فى طفولته للهروب من ‏‏«ملاك الموت»‏

جريدة الدستور

هيئة الكتاب لم تصدر أعماله رغم أنها 300 صفحة وكان يحلم بمقابلة فلاح قرأ قصائده

أصيب بالسرطان فى رمضان 98.. آمال فهمى تدخلت لعلاجه على نفقة الدولة.. وتناول جرعة كيماوى واحدة ثم مات

كان مهمومًا بالشعر ويتخيله وسيلة لمصالحة العالم وتهذيب الكون، ويتعجب: كيف لا يغير الشعر من الناس؟ كانت تجربته الذاتية، وكونه ولدًا وحيدًا فى أسرة كلها من البنات ‏عاملًا كبيرًا فى تكوينه كشاعر.. إنه مجدى الجابرى. الشاعر الذى خطفه الموت قبل الأوان، كان يحاول الوصول للإجابات عن أسئلة ثقيلة ومؤرقة لم ولن تطرح، ولم يجد ‏الإجابة، ومات مأزومًا بعد أن كتب الكثير من القصائد التى برهنت على وجود شاعر حقيقى. وُلد «الجابرى» فى أغسطس ١٩٦١، ومات فى مايو ١٩٩٩، ولم يصدر فى حياته ‏إلا ثلاثة كتب، هى «أغسطس» عن دار المصرية، على نفقته الخاصة عام ٩٠، و«عيل بيصطاد الحواديت» عن سلسلة إبداعات، و«الحياة مش بروفة» أثناء فترة مرضه.‏
تجربة قصيرة العمر لكنها مهمة لـ«الجابرى»، لذلك التقت «الدستور» أرملته الكاتبة صفاء عبدالمنعم، لتفتح الصندوق الأسود لحياة الشاعر الراحل، لنتعرف من خلالها على ‏كواليس وأسرار حياة صاحب «الحياة مش بروفة».‏

‏■ بداية، نلحظ تأثيرًا واضحًا لتجربة «الجابرى» الحياتية فى شعره.. كيف كانت نشأته؟
‏- «مجدى» حكى لى أن والدته أنجبت ١٦ طفلًا، وكان هو التاسع، وهو أول ولد يعيش لهذه الأسرة، لذلك مورست عليه كل التقاليد والموروثات القديمة.‏
كانوا يلبسونه ملابس البنات ويطيلون شعره، وكأنهم يغافلون ملك الموت كى لا يعرف أن هذا ذكر، وبالتالى لا يقترب منه، ووصل الأمر لدرجة أنهم كانوا ينادونهم بأسماء بنات أيضًا.‏
الموروث يقول إن العائلة التى يولد لها أولاد ويموتون فلكى يعيش ولد يجب اتباع عدة أمور، منها أنهم يحملون الولد ويذهبون إلى ٧ أشخاص كلهم لهم اسم واحد، وهو «محمد»، ويقومون ‏بـ«الشحاتة»، والنقود التى تجمع منهم يذهبون بها إلى الحداد، ويصنع منها خلخالًا للولد.‏
و«مجدى» عانى فى صغره من تلك الطقوس، سوى أن أباه لم يقبل بتغيير اسمه لاسم بنت وتمسك باسمه.‏
‏■ هل كان اتجاهه للفلكلور محاولة منه لفهم تلك الطقوس؟
‏- من الممكن أن يكون هذا هو الباعث الحقيقى لانضمامه لفريق يجمع الفلكلور. لقد أعد دراستين نُشرتا فى الفنون الشعبية، لكن عمله مع الفريق كان يُضاف للأطلس الذى تشرف عليه الهيئة ‏العامة لقصور الثقافة، وإلى الآن لا نعرف شيئًا عن هذا الأطلس، وهو موضوع لا يفتحه أحد، الذى أعرفه أن المشرف عليه كان الدكتور محمد الجوهرى، وصدر منه كتاب عن الخبز، والباقى من ‏الجمع، وهو الحكايات الشعبية فكان «الجابرى» يسجلها على شرائط، وأنا أصدرت جزءًا، وأتمنى استكماله.‏
‏■ ما أهم إنتاجاته قبل الاتجاه لشعر العامية؟
‏- أول ما كتب كان مسرحية بعنوان «جواز على ورق اللحمة»، كان وقتها فى كلية الزراعة فى عين شمس، وكان يفترض أن يقوم بدور فيها، لكنه لم يمثل، وأنا بحثت عن نص المسرحية، ولم ‏أجده.‏
وقبل العامية كتب شعر التفعيلة ووجدت بعض القصائد فى هذا، وله تجرية بالفصحى اسمها «ثرثرنا كثيرًا»، ولم تطبع وحدها، وكانت كتاباته فى هذه الفترة مما يسمى بكتابة بوح، وصدرت هذه ‏الأشعار فى الأعمال الكاملة.‏
كان «مجدى» يكتب لى الخطابات قبل زواجنا، لم تكن خطابات حبيبة أو عشاق بقدر ما كانت خطابات تحمل تساؤلات، كان يكتب الهاجس الذى طرأ عليه بمنطق الحوار ونتناقش فيه، وأصدرت ‏هذا أيضًا من ضمن الأعمال الكاملة.‏
‏■ ماذا عن الأعمال الكاملة.. ولماذا لم تصدر عن هيئة حكومية؟
‏- حاولت بالفعل إصدار الأعمال الكاملة له عن هيئة الكتاب أو قصور الثقافة، لكننى لم أوفق رغم أنها لم تتجاوز الـ٣٠٠ صفحة، وأعلم تمامًا أن هناك الكثير من الأدباء صدرت لهم الأعمال ‏الكاملة.‏
أنا أتساءل: لماذا لا تصدر الهيئة أعمال «مجدى» وأعمال كل المبدعين الذين ماتوا، لماذا يكون هناك معياران فى التعامل مع الأدباء، أين أعمال محمد أبوالمجد وطاهر البرنبالى وغيرهما، فى حين ‏أن هناك آخرين يضعون ساقًا فوق ساق، وتصدر لهم الأعمال الكاملة.‏
أنا نشرت الأعمال الكاملة له على نفقتى الخاصة، وصدرت عن دار «وعد للنشر والتوزيع»، لكن الجميل فى نشر الهيئة أن تكلفتها أقل فى البيع والأمر الآخر هو وجود إصداراتها على الأرصفة ‏بما يعنى وجود الكتب فى كل يد.‏
المشكلة أيضًا أننى أتمنى أن أصدر أعمالى أنا قبل موتى لكى تتوسع قاعدة القراءة، وليس فخرًا أننى لو لم أكن خلف تجربة «الجابرى» لمات مثل الآخرين، بالتأكيد لا بد أن يكون هناك من يحمل ‏هم التجربة، سيد عبدالخالق وعبدالدايم الشاذلى وإبراهيم فهمى ومكاوى سعيد مثلًا ماتوا صغارًا، أين أعمالهم الكاملة؟ أضعف الإيمان نترحم على أرواحهم.‏
‏■ بِمَ تفسرين عدم حصوله على جوائز رغم أنه رائد لنثر العامية؟
‏- «مجدى» قبل وفاته تقدم للحصول على جائزة الدولة، ولم يحصل عليها. أود فقط معرفة ما المعايير الحقيقية التى لأجلها يحصل المبدع على الجائزة، فمثلًا فى عام تعلن إلى سن الأربعين، وفى ‏عام آخر تعلن إلى سن مفتوحة لأجل بعض الأشخاص، فما المعيار الحقيقى؟
القضية هنا ليست «مجدى» فقط، لكنها قضية الكثير من المبدعين، نحن لسنا الصفوة حتى نحصل على أى شىء، هناك البعض ممن يحصلون على السفريات والجوائز والترجمات، وهناك الوجه ‏الآخر من المبدعين المهمومين بحق ولا يتحصلون على شىء، حتى إنهم يعانون فى إصدار كتبهم أيضًا، لأنهم لا يملكون سككا أخرى.‏
نحن نسمع أن هناك الكثيرين ممن حصدوا الجوائز، وتركوا المقابل النقدى، وهناك من يحصل عليها مناصفة، ونجيب محفوظ إلى أن حصل على نوبل لم يحصل على أى جائزة من مصر، محمد ‏أبوالمجد والبرنبالى لم يحصلا على شىء، ونعمات البحيرى بشق الأنفس، وتسلمت قيمة الجائزة وماتت، وعبدالدايم الشاذلى وخالد عبدالمنعم.. والقائمة تطول.‏
‏■ إلى أى مدى كان مأزومًا.. هل هناك هاجس ما كان يسيطر عليه؟
‏- لو كانت هناك افتراضات أن هناك شخصيات مأزومة، فمجدى كان هكذا، يقرأ أكثر مما يكتب، كانت أزمته الوجود، ولِمَ نعش ونموت؟ هاجس كبير وفلسفى، ولن يقدر أحد على الإجابة عنه، ‏كانت هذه القضية تؤرقه، كان يرى كل شىء عبثيًا.‏
فكرة ميلاده كانت عبثًا بسبب ما مورس عليه من أن يكون بنتًا حتى يدخل المدرسة، ووفاته كانت عبثًا أيضًا، أيًا كانت درجة الصوفية، فكيف يمكن أن يرى موته؟ كان يعشق «النفرى»، كلما زاد ‏اطلاعك أيقنت تمامًا أنك تافه فى هذا الكون الكبير، وأن كل ما يحدث ليس له أهمية من حروب وجمع نقود وغيرها، و«مجدى» مات قبل أن يرى تداعيات الأحداث.‏
لكن الأزمة الحقيقية له كانت حين غزا صدام حسين الكويت، وقتها أيقن أنه لا جدوى من الشعر إن لم يغير الناس، فأهمله تمامًا، وحين رجع كتب قصيدته «الفضيحة لازم تكمل»، لكنى لم أعثر ‏عليها.‏
‏■ إذن كان يرى أن الشاعر نبى غير مرسل؟
‏- كان يرى أن الشعر رسالة لتهذيب الإنسان الهمجى فى الكون، وأن الشاعر جزء من العملية الإصلاحية.‏
الذى عاشر «مجدى» يكتشف عن أنه تجربة صوفية، هو حالة فى حد ذاتها، لم يكن يحب إلا السيجارة وكوب الشاى، كان يحلم أن يقرأ قصيدته الناس العاديون ويكلمونه عنها، أن يقابله فلاح ‏ويناقشه فى قصيدته الأرض، كان يحب الشعر الذى يصل للناس، ولذلك كان يستخدم المفردة البسيطة، التى تصل إليهم بسهولة، لكن البعض يلومه لهذا الأمر، وكان ينتقى مفرداته، ولم يكن يهتم بهم، ‏كان يهتم بشعره فقط. ولم يكن يفرق معه أن يكون مدرسة مثلًا، كان يهمه فقط أن يكتب تجربة جديدة لم تُكتب من قبل.‏
‏■ فى رأيك.. هل هناك ظلم وقع على «الجابرى»؟
‏- نعم ظُلم كثيرًا. فى عمله مثلًا كان يغضب عندما تُقسم الحوافز فدائمًا يجد أنه من ضمن الشريحة الأقل، ولا يتكلم، هى أشياء بسيطة وصغيرة، لكنها تسبب له أزمات نفسية، وكتب هو هذا ‏الكلام: كيف لشخص يقبض ٩٠ جنيهًا ويعيش بها؟
كان أخلاقيا وكانت أخلاقياته هذه تسبب له أزمات كثيرة، لم يكن يقبل أن يغضب منه أحد، وكان هذا يحمله عبئًا نفسيًا كبيرًا، ويجعله مأزومًا بقوة.‏
‏■ حدثينا عن قصة حبكما.. كيف بدأت؟
‏- كانت بيننا قصة حب كبيرة، لكنها جاءت بالصدفة، لم يمسك أحدنا حبلًا ليوقع بالآخر، ولم تكن هناك خطط. وبالمناسبة كانت كل الناس ترانى أننى ولد «جدع»، وكنا نذهب إلى الندوات، بهذا ‏المنطق، ورأى أننى يمكن أن أكون له سندًا، فكرة السند فقط، ويمكن لأننى مستقرة أيضًا وموظفة، لكن لا أعتقد أن هذا الأمر كان يدور بخاطره، وحين سألوه لماذا صفاء؟ قال لهم لأنكم تنظرون ‏إلى القشرة الخارجية فقط، لكنكم لا تعرفونها.‏
‏■ بالنسبة لمرضه بالسرطان.. كيف كانت هذه التجربة الأليمة؟
‏- كانت محزنة بالفعل، كنا فى العشر الأواخر من رمضان سنة ٩٨، أكلنا «سمك» على الإفطار وذهب إلى العمل بعدها وبعد عودته قال لى إن السمك مسموم وطول وقت الشغل عندى قىء، ‏قلت له لا بد إنه برد، المهم أنه ظل يكح ولم يأكل فاعتقدنا أنه سل، وذهبنا به إلى مستشفى «أم المصريين»، وظل لفترة تحت الأشعة والتحاليل، وأحيل إلى معهد الأورام بعد عيد الفطر، كان الورم ‏وقتها قد وصل إلى مرحلة كبيرة، كان قد بلغ سنتيمترًا كاملًا، وأخذ «مجدى» جرعة كيماوى واحدة، ولم يتناول غيرها.‏
‏■ وهل تدخلت الدولة لعلاجه؟
‏- الدولة لم تعالجه إلا حين تدخلت آمال فهمى بنفسها، كانت تذهب كل شهر لتحضر الشيك الخاص بالعلاج على نفقة الدولة، وتدفعه لمعهد الأورام، وإلى أن مات لم أستطع استخراج تأمين صحى ‏له، وكان هذا يحزنه، ويقول لى «هما بيشحتوا عليا».‏
‏■ فى بعض قصائده بدا أنه كتب قصته مع الموت.. هل كان يشعر بدنو أجله؟
‏- عرف بموته قبل عام، كنا وقتها فى المصيف على الشاطئ، وكان هناك ولد جميل يلعب بالرمل، فقال لى انظرى لهذا الولد، والحقيقة أنه كان يشبه «مجدى» فى صغره، واعتقدت أنه يقول لى ‏إنه يشبهنى، لكنه فاجأنى بقوله «هذا ملك الموت»، فاستنكرت عليه هذا الكلام، وقلت له: كيف يكون ملك الموت، فحلف بالله أنه ملك الموت. ومات فى نفس الشهر بعد عام واحد بالضبط، ويومها ‏كتب قصيدته «مورد جثث».‏