رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفيلم الملعون.. أوراق ووثائق «اللمبي»

جريدة الدستور

معظم الجمهور الذى يشاهد «اللمبى» الآن وهو مسترخٍ على الكنبة «يقزقز اللب» ويضحك من قلبه على مواقفه وإفيهاته، لا يعرف أن هذا الفيلم الهزلى جدًا كان مثارًا لمعركة ثقافية جادة جدًا شارك فيها مثقفون كبار وقامات نقدية مرموقة، وتحول الفيلم إلى قضية وتعالت الأصوات لمنع تصديره للعرض خارج مصر باعتباره. «جريمة» مكتملة الأركان.
الفيلم الذى عُرض فى عام ٢٠٠٢ وقام ببطولته نجم الكوميديا محمد سعد مع عبلة كامل وحلا شيحة وحسن حسنى، وكتبه أحمد عبدالله، وأخرجه وائل إحسان من إنتاج الأخوان السبكى، قبل انفصالهما كان علامة فارقة فى تاريخ السينما المصرية، بما يمكن-بلا مبالغة- أن تؤرخ لأحداثها قبل «اللمبى» وبعده، وحينها اعتبره المخرج الكبير رأفت الميهى موجة كاسحة، وفسر نجاحه الطاغى بأنه انتصار لسينما على الكسار الهزلية واحتقار لسينما صلاح أبوسيف الحقيقية، وراح يصب جام غضبه على حال السينما ونجومها الجدد ويصرخ فى آسٍ: كلهم اللمبى.

نقاد هاجموه وطالبوا بمنع عرضه.. وصافى ناز كاظم: تحفة سينمائية
تسبب الفيلم فى انقسام حاد فى الآراء حوله، لكن الآراء الغاضبة الساخطة كانت هى الأعلى صوتًا وصخبًا، فكتب طارق الشناوى: «لا يوجد فيما شاهدته من مواقف ونكت ما يمكن أن نطلق عليه فيلمًا، وعلى محمد سعد أن يغنى فى الفرح ليس «حب إيه اللى أنت جاى تقول عليه»، ولكن «فيلم إيه اللى انت جاى تقول عليه».. انت عارف قبله معنى الفيلم إيه؟».
ووصف السيناريست الكبير مصطفى محرم سينما اللمبى بأنها أكثر فترات السينما المصرية انحطاطًا، ووصف منتجيها بأنهم «أفاقون» ونجومها بأنهم «مهرجون» وما يقدمونه ليس كوميديًا، بل ضحك عشوائى.
وكان الناقد الكبير أحمد الحضرى- رحمه الله- الأكثر غضبًا وسخطًا وعنفًا فى مواجهة «اللمبى» وكتب: «أما (المسخ) أو ما يطلق عليه (اللمبى) فهو كارثة بكل المقاييس، إن دلت على شىء فإنما تدل على غياب وعى المؤلف، بدءًا من استغلاله اسم (اللمبى) ذلك الاسم الذى يعود إلى جنرال بريطانى شهير(اللورد اللنبى) كرهه الشعب المصرى ويقام باسمه حتى الآن كل عام احتفال فى بورسعيد يحرقون فيه دميته، ويرمز عندهم للاستعمار الأجنبى البغيض بكل ما يحمله زمنه من مذلة ومهانة وقهر.. فكيف مسخ المؤلف تلك الشخصية الكريهة وحوّلها إلى بطل شعبى من سماته الطيبة والجدعنة؟.. نحن إذن أمام عمل فاقد للهدف والمضمون، ويقدم توليفة من الضحك القائم على التفاهة». ووصف زميله الناقد محمد عبدالفتاح- رحمه الله- الفيلم بأنه «نكسة السينما المصرية فى الألفية الثالثة».
وتوالت اللعنات على رأس (اللمبى)، ولم تقتصر على السينمائيين وحدهم، بل انفتحت عليه أبواب الجحيم جميعًا، وتعالت صرخات الموسيقيين تتهمه بأنه ارتكب جريمة فى حق الغناء العربى وسيدته أم كلثوم وشوه تحفتها الخالدة «حب إيه» عندما قام بأدائها بطريقة أفراح العشوائيات وبابتذال لا يليق بأغنية مستقرة فى وجدان الملايين على امتداد العالم العربى وبروشنة تهدر هيبة كوكب الشرق، وبناءً عليه تعالت الأصوات والصرخات المطالبة بمنع تلك «الجريمة» ومحاكمة مرتكبها ليكون عبرة لكل من يتجرأ على ارتكاب تلك «الفواحش الغنائية».
ولم يعدم «اللمبى» من يدافع عنه ويتحمس له بين النقاد والمثقفين، بل يصل إلى درجة متطرفة من المديح ترى فى الفيلم تحفة سينمائية تستحق الإعجاب والتصفيق، وقاد هذا الفريق ناقدة لها وزنها مثل صافى ناز كاظم، التى امتلكت الشجاعة لأن تسير عكس التيار وتكتب بحماس: كنت حريصة على حضور عرض فيلم «اللمبى»، قبل أن يصبح حديث المدينة والأوساط الثقافية، كان يهمنى أن أشاهد عبلة كامل، وكان يهمنى أن أشاهد هذا الممثل الجديد المبهر محمد سعد، الذى سبق أن شاهدته أول مرة فى لقطات قصيرة ظهر فيها غريبا لافتا بفيلم «الناظر» لعلاء ولى الدين، وحرصت أن أتابعه فى «٥٥ إسعاف».. إنه نموذج لم تعرفه السينما المصرية من قبل، يمثل نمطًا من البشر موجودًا فى الحياة، ليس السائد فيها، لكنه إذا قابلك فلن تنساه. هو «حثالة»، هو «عشوائى»، «عاطل»، «أمى»، «مسطول» متعثر فى النطق، عاجز عن صياغة جملة للتعبير عما يريد، منسحق آتٍ من قاع الدمار الإنسانى، كلما حاول أن يستنشق نسمة هواء خارج بئره البائسة، تكالبت عليه الأيدى القوية لتدفع برأسه تغطسه فى الاختناق والفساد والحصار.
ويتوهج حماسها ويعلو: «هذا الفيلم «اللمبى» الهازل جدًا، حتى ليحسبه الجاهل عبثا، الجاد جدًا، حتى يكون بإمكانى أن أضعه فى مرتبة «أهم» أفلام السينما المصرية منذ «العزيمة» و«سلامة فى خير» و«الكرنك»، بل وأضعه فوق كل «قفة» أفلام يوسف شاهين بأكملها، ليس فيلمًا «كوميديًا»، إنه يدخل تحت «الفارس» الذى ترجمته «فن الهزل» الذى بلغ ذراه عند شارلى شابلن، والذى نادى به «ألفريد جارى»، أحد رواد المسرح الحديث وقد مات فى باريس عام ١٩٠٧ وهو مبتدع الشخصية الهزلية «الملك أوبو» ليجسد بها كل ما نكرهه فى العالم من دمامة وابتذال، المطلق للقبيح وتجسيم الشراهة والقسوة والنذالة.. الحقيقة إنه فيلم يعج بالتكثيف الدرامى، كل جزئية من جزئياته تحمل دراميتها الخاصة، وكل شخصية لها تركيبتها الدرامية المتكاملة، والمخرج وائل إحسان الشاطر جدًا، استطاع فى هذا البحر المائج بالدراما أن يؤلف، وينسق، ويفنط، ويدمج، ويرتب ويجمع كل تلك الجزئيات الحادة الوهاجة فى بوتقة متأججة بالتفاعل، تأخذ وتعطى فى إنضاج متبادل. ولقد فرحت بما كتبه هذا المخرج الشاب فى صوت الأمة ٢٢٧٢٠٠٢، يتكلم بثقة واعتداد عن عمله وبطله «محمد سعد»، نعم هكذا: لا تسكت ولا تخف. أنت فنان، ومعك كل الفريق الذى قدم هذا العمل الصعب والمحكم»
وفى «صوت الأمة» كذلك كتب محمد الباز: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمى اللمبى بحجر».
وفاجأ المخرج الكبير على بدرخان الجميع معلنًا أنه ليس ضد الفيلم ولا الموجة التى يمثلها، فالسينما فى النهاية صناعة والمنتج يهمه الربح فى الأساس، والجمهور عايز كده، وعلى المعترضين أن يذهبوا لإنتاج نوعية أخرى من الأفلام ولا يكتفوا بـ«الولولة».

تقرير بخط يد صلاح عيسى يدعو الرقابة لترخيص تصدير العمل: لا لفرض القيود على الإبداع
الأصوات المنحازة للفيلم كانت أقل عددًا وصخبًا فى مقابل أصوات الرفض والغضب وهو الموقف الذى جعل رئيس الرقابة على المصنفات الفنية حينها د. مدكور ثابت يتردد كثيرًا فى الموافقة على السماح بعرض الفيلم خارج مصر وتصديره، ورأى أن يتستر وراء «لجنة شورى النقاد»، وهى لجنة استشارية غير رسمية ورأيها غير ملزم كان قد أنشأها من نقاد وسينمائيين ليستدل برأيها ويتحامى بها فى الأفلام التى تثير الخلاف، كما حدث مثلًا عندما اعترضت الرقابة على عرض الفيلم الأمريكى «عودة المومياء» وقال تقرير الرقباء إن أحداثه التى تدور فى مصر تقدم صورة سلبية عنها، فشكّل رئيس الرقابة لجنة من النقاد والسينمائيين ضمت أسماء فى قيمة: أسامة أنور عكاشة وعادل حمودة وبهاء طاهر وكمال الشيخ وزاهى حواس والسفير عبدالرءوف الريدى. واجتمعت لمشاهدة الفيلم فى ١٦ مايو ٢٠٠١ وأقرت بعرض الفيلم.
ولجأ رئيس الرقابة إلى الحيلة نفسها عندما ثارت عاصفة «اللمبى»، فشكّل لجنة من النقاد وأهل الاختصاص لمشاهدة الفيلم، وبالفعل حضروا جلسة مشاهدة الفيلم فى ١١ أغسطس ٢٠٠٢، أى قبل ١٦ عامًا بالتمام والكمال، وطبقًا لتوقيعاتهم فى سجل الحضور، كان منهم مبدعون بقيمة محمد نوح وبشير الديك وفاروق صبرى والسيد راضى ويوسف القعيد ومجدى أحمد على والمنتجين جابى خورى وأحمد السبكى المنتج.. ومن الكتاب والنقاد: ماجدة خيرالله وعاطف بشاى ومحمد الباز ومجدى الطيب ومحمود سعد وعبدالرازق حسين وعبدالمنعم سعد وكاتب هذه السطور.
وكانت اللجنة برئاسة الكاتب الكبير صلاح عيسى «رئيس تحرير جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة»، وبعد المشاهدة وبناء على آراء الأعضاء صاغ صلاح عيسى التقرير النهائى الخاص بتصدير فيلم «اللمبى»، ويقول نصه «وننشر صورته بخط كاتبه»:
«اجتمعت اللجنة التى شكلها د. مدكور ثابت، رئيس الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، من عدد من النقاد والأدباء وكتاب السيناريو لاستشارتهم فى مدى صواب الترخيص بتصدير فيلم «اللمبى» من بطولة محمد سعد وإخراج وائل إحسان فى ضوء الحملة النقدية التى تعرّض لها الفيلم.
وشاهدت اللجنة مجتمعة الفيلم وتداولت فى الموضوع وقررت:
- توجيه الشكر للدكتور مدكور ثابت لحرصه على الاستنارة بآراء الكتاب والصحفيين والنقاد والمهتمين والمشتغلين بالسينما، فيما يُثار من مشاكل تتعلق بحرية الإبداع، تكون الرقابة طرفًا فيها.
- أجمع أعضاء اللجنة على رفض كل مطالبة أو اتجاه ينحو إلى فرض أى قيود على حرية الإبداع، وفى هذا الصدد طالبوا بتعديل قوانين الرقابة، بحيث يكون الترخيص بعرض المصنف الفنى صالحًا فى الداخل وفى الخارج، ولا يجوز سحبه أو إعادة النظر فيه.
- اختلف أعضاء اللجنة فى تقييم الفيلم، وبينما ساند البعض ما ذهبت إليه الحملة النقدية ضده، فقد اعتبره آخرون فيلمًا جيدًا وهو ما يؤكد أن المواكبة النقدية الواعية للأعمال الفنية مما تتعدد فيه الآراء، وهى كفيلة بتصويب مسار العمل الفنى من دون حاجة إلى أى إجراءات للمصادرة أو التقييد.
- يرى المجتمعون أن مهمة الرقابة- حسب قانونها- هى إجازة العمل الفنى فى ضوء الشروط الواردة فى هذا القانون، وفضلًا عن أنهم يرفضون أن تتدخل الرقابة فى الحكم على المستوى الفنى للأعمال التى يطلب أصحابها الترخيص بتصويرها أو طبعها، فتلك هى مسئولية صناع الفيلم.
- فى ضوء ذلك أشار المجتمعون على الدكتور رئيس الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات بأن يرخص بتصدير الفيلم، وفوضت اللجنة مدير الجلسة صلاح عيسى فى صياغة قراراتها واعتبار التوقيع فى كشف الحضور المرفق بمثابة توقيع على تلك القرارات.. صلاح عيسى رئيس اللجنة
وعلى نفس الورقة وفى نفس الجلسة كتب رئيس الرقابة التأشيرة الآتية: تُعتمد توصيات اللجنة، سواءً فيما يتعلق بالناحية الإجرائية للتصدير، أو الناحية المبدئية لموقف الرقابة من الناحية الفنية للأعمال.. د. مدكور ثابت
خرج «اللمبى» من تلك المعركة منتصرًا، تجلى ذلك فى الإيرادات غير المسبوقة وتصدره شباك التذاكر باكتساح، وتجلى فى تدشين بطل شعبى جديد فى السينما المصرية يمثل بقوة جماهير العشوائيات والطبقات المطحونة التى وجدت فى «اللمبى» بطلها والمعبر عنها، وهو المعنى الذى كانت صافى ناز كاظم أول من وضعت يدها عليه عندما كتبت: «لقد سادت ذائقة الأثرياء الجدد أصحاب الثراء المباغت، وفرضت هذه الفئة على المجتمع اختياراتها الجمالية القبيحة، المتمثلة فى التلهف نحو الفخامة الفجة الصارخة، وشراهة المأكل والملبس والإسراف والتبديد والإهدار والضجيج العالى فى كل أوجه نشاطها وقيمها، ما أدى إلى خلل ملحوظ فى اتجاهات المجتمع المصرى.. فماذا يفعل المسكين الجالس فى حيه العشوائى، الطافح بالمجارى، يشاهد كل هذا الضجيج على شاشة تليفزيون تئز فى مقهى المعسل والكيف والفقر المدقع؟ شهيته تتحرك للطعام الساحر، والحب الملتهب، والبيوت والحدائق والفيلات والقصور، ولم لا؟ عليه فقط أن يختار «المشروع» الذى يجلب الثراء ويصطاد الدولار. وبإمكانيات الأمية والتخطيط العشوائى تخرج الفكرة النيرة».
انتهت معركة اللمبى ولم يتبق فى الذاكرة سوى تلك الشخصية «العشوائية» وتعبيراتها التى استقرت فى الذاكرة المصرية ككلمات مأثورة: «يا سلام يا عم بخ الحجرين من غيرك ولا يسووا.. روح يا شيخ وتعالى بسرعة»
«وأنا اللى فتحت لك بيتى واعتبرتك أب من أبهاتى»
وبعد ١٦ سنة على تلك المعركة لا بد وأن كثيرين من الذين هاجموا الفيلم واعتبروه نكسة سينمائية يشعرون أنهم مدينون باعتذار له.. إذ إن اللمبى يعد ملاكا إذا ما وضعوه وقارنوه ببطل العشوائيات الجديد.. عبده موتة.