رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقتل أسقف.. وقوانين الرهبانية الصارمة


أثار اغتيال الأسقف الهادئ والوديع والمثقف الجليل الأنبا أبيفانيوس، أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار بوادى النطرون، بداخل ديره وأمام باب قلايته- حالة من الحزن والألم فى نفوس عارفى فضله وطبيعته الهادئة.
تعود معرفتى به منذ نوفمبر ٢٠٠٨ عندما التقيته فى ضواحى مدينة فرانكفورت بألمانيا، حين كان مصطحبًا أحد الآباء الرهبان من الدير للعلاج من ورم سرطانى بالمخ، وجدته بطبيعته الهادئة يصطحب زميله الراهب المريض متجولًا معه فى حدائق مقر إقامته، والصلاة سويًا وتبادل الأحاديث النافعة الهادئة، بعيدًا عن أحوال المرض وهموم الحياة.
لقد تحقق قول البابا شنودة عندما كان يقيّم الأساقفة بقوله: (الأسقفية دعوة إلى الاستشهاد)، فالأسقف لا يهدأ ولا يستريح ولا يتجول حُرًا بعيدًا عن خدمة شعبه وأولاده الرهبان ولا تكون لديه مقار متعددة فى الداخل والخارج، بل يحيا فى فقر اختيارى، إذ يحرص على أن يكون دائمًا أمام أولاده مستمعًا لاحتياجاتهم، مقدمًا لهم الصورة الهادئة فى اجتياز الضيقات.
ودير القديس أنبا مقار، بوادى النطرون، بدأت فيه الحركة الرهبانية الجادة- فى عصرنا الحديث- عندما استدعى البطريرك الحكيم البابا كيرلس السادس، البطريرك ١١٦، الأب متى المسكين وتلاميذه الرهبان من برية «وادى الريان» المُقدسة فى ٩ مايو ١٩٦٩ للسكنى وتعمير دير الأنبا مقار بوادى النطرون، بعد أن تدهورت فيه الحياة الرهبانية، وأشهد أنى فى أغسطس ١٩٦٦ توجهت لزيارة الدير، ولم يكن به سوى خمسة رهبان فقط، ولا يملكون أى شىء إطلاقًا ويعيشون على تبرعات الزائرين، فكان فكر البابا كيرلس السادس صائبًا عندما اختار تلك المجموعة المثقفة من الرهبان والملتزمين بالحياة الرهبانية ليكونوا نواة تعمير الدير، وبالأخص أن الأب متى المسكين قد تتلمذ فى رهبنته على يد الأب مينا البراموسى المتوحد (البابا كيرلس السادس فيما بعد) فى عام ١٩٤٨، وكان تلميذًا محبًا لأبيه، كما تشهد بذلك الخطابات التى معى والتى كان يرسلها الأب متى المسكين إلى والدى، طيب الذكر، الأستاذ بديع عبدالملك.
فى عام ١٩٨١ سجل لنا الأب متى المسكين فى كتابه «لمحة سريعة عن رهبنة مصر ودير القديس أنبا مقار»، المراحل المختلفة التى مر بها الدير منذ مبدأ ظهوره فى نهاية القرن الرابع الميلادى وحتى النهضة المعمارية والروحية الحديثة، فذكر فترة النكسات ثم الانتفاضات المتوالية إثر غارات البربر، فقال: «بدأ عصر النهضة الرهبانية الأولى بالدير سنة ٥٥١م وفيه انتقلت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية إلى الدير، وبلغ عدد الرهبان فى بداية هذا العصر حوالى ٣٥٠٠ راهب».
وبعد هذا الازدهار أصيبت الأديرة بنكسة أودت بكثير من معالم نهضتها، فقد وقعت غارة البربر الرابعة سنة ٥٧٠م، فتركت الأديرة فارغة مُهدمة. وعاد اضطهاد الوالى «كيرش» البيزنطى سنة ٦٣١م بدوافع دينية عقائدية وعنصرية، فزاد الضيق بالرهبان حتى هجر معظمهم الأديرة ولجأوا إلى الأماكن القريبة من المدن، وخصوصًا حول دير «نهيا» بالجيزة، كما يخبرنا أبوصالح الأرمنى فى كتابه «تاريخ الكنائس والأديرة»: «فخارج دير نهيا وبجواره توجد قلالى كثيرة تابعة للآباء الرهبان الذين جاءوا من دير أنبا مقار زمن بطريركية أنبا بنيامين»، (٦٢٣- ٦٦٢م).
ويخبرنا تاريخ الكنيسة وكتابات المؤرخين بأن الكنيسة القبطية تعرضت طوال عصورها إلى موجة من القلاقل والاضطرابات، تلك التى كانت متزامنة مع المخالفات الكنسية، ولا يمكننا أن نفصل ذلك عن تلك.
وفور وقوع الحادث المؤسف الذى أودى بحياة الأسقف الأنبا أبيفانيوس انعقدت لجنة الأديرة لتدارس الموقف وضبط الحياة الرهبانية، لأن فى الرهبنة القوية يتم اختيار أساقفة إيبارشيات، وأيضًا يتم اختيار أسقف تقى للإسكندرية، وأشهد أمام الله أنى طالبت البابا شنودة- نحو عام ٢٠٠٨- بأمثال تلك القرارات بل أكثر منها، من ذلك:
(١) لا يوجد فى الرهبنة ما يُسمى «أسقف الدير»، بل هناك أب كاهن يُسمى «رُبيته» يدير أمور الدير بالتعاون مع زملائه الرهبان. فأديرة الرهبان فى كل من قبرص واليونان لا يوجد بها أسقف، وهو فى الأصل نظام رهبانى قديم فى الرهبنة القبطية التى بدأت على أرض مصر فى القرن الرابع الميلادى على يد أبى الرهبان «القديس أنطونيوس»، ورهبنة «البندكت» فى العالم كله قامت على قوانين أنبا باخوم.
(٢) لا يوجد بداخل الرهبنة الصحيحة أية رتبة كهنوتية بين الرهبان، أى أن الراهب يحيا فى الدير كراهب فقط دون أن يكون كاهنًا، فالكهنوت والرهبنة أمران منفصلان تمامًا. والأمر الصحيح أنه يوجد فى ديرى القديس أنبا مقار بوادى النطرون والقديس مينا العجايبى بمريوط عدد من الرهبان بدون درجة كهنوتية ويرفضون أن يحصلوا عليها، وللأسف بعضهم يتعرض للضغط من أساقفتهم لإقامتهم كهنة!! وكان- فى عصرنا الحديث- كل من الأب متى المسكين والأب مينا آفا مينا، الأب الروحى، مدبر دير القديس مينا بمريوط يرفضان إقامة رهبان فى درجات كهنوتية، كمنهج رهبانى أصيل. فالراهب تبدأ حياته فى الدير بصلاة «الموتى»، أى الموت عن العالم.
(٣) منع أى راهب من أن يكون له حساب على مواقع التواصل الاجتماعى، وهذه بديهية أولى لراهب ترك العالم وتفرغ للعبادة أن ينشغل بأمور العالم. وأشهد أنى رأيت فى أديرة قبرص- سواء للرهبان أو الراهبات- أنه لا يوجد أى راهب لديه «تليفون محمول»، ولا يوجد بالدير أى جهاز تليفزيون، فقط لديهم جهاز كمبيوتر- دون وجود شبكة اتصالات- لكتابة دراسات كنسية أو نسخ بعض التسجيلات الدينية.
وأود هنا أن أذكر واقعة حقيقية حدثت معى فى أحد أديرة «جبل آثوس» أو الجبل المقدس باليونان. أنه نحو عام ١٩٨٤ ذهبت لأحد الأديرة يحمل اسم «السيدة العذراء مريم» فى عيدها باليونان الموافق ١٥ أغسطس، وهناك تقابلت مع راهب مُسن، وعندما علم أنى مصرى بادرنى بسؤال: (كيف حال الملك فاروق؟)، للوقت علمت أنه فعلًا منقطع عن أخبار العالم تمامًا.
(٤) أيضًا ممنوع على أى راهب أن يمتلك سيارة خاصة، وأعرف بعض الرهبان لا يملكون أى شىء ويحيون فى أديرتهم منقطعين تمامًا عن العالم متفرغين للعبادة الصادقة. وأذكر أنى فى مناقشتى مع البابا شنودة الثالث فى ذلك الأمر، قال لى بالحرف الواحد: (اليوم الراهب لا يحتمل أن يبقى بداخل قلايته ولا يبقى بداخل سور الدير). إن كان الأمر كذلك فلماذا ذهب للرهبنة؟ الرهبنة هى انسلاخ من الكل للارتباط بالواحد (الذى هو الله). وأتمنى أن يسلك الأساقفة مسلك الرهبان فى الزهد والتقشف والبُعد عن حياة الثراء، وبعضهم يملك قنوات فضائية!! والبعض الآخر لهم حسابات بنكية فى الداخل والخارج!! بدلًا من أن يكونوا قدوة طيبة لشعبهم تلك التى رأيناها بصدق فى حياة البابا كيرلس السادس الذى عاش فقيرًا فعلًا ورحل غنيًا فى فضائله تلك التى يتغنى بها مسلمو مصر وأقباطها.