رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بما لا يخالف القانون


سأحاول فى هذه المقالة أن تكون عباراتى سهلة وبسيطة لتصل معانيها إلى الجميع، خصوصًا أننى سأتحدث عن أمر من أمور القانون، وهو تعليقى على الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا ‏بإلغاء قرار عزل الضباط الملتحين الصادر عن مجلس التأديب مع ما يترتب على ذلك من آثار، أهمها عودة هؤلاء الضباط إلى الخدمة الفعلية، وقد استندت المحكمة فى حكمها إلى أن القرار الذى ‏كان يجب أن يصدر هو الإحالة للاحتياط وليس العزل من الوظيفة، وقد اعتبر الحكم أن العزل يخالف القانون فى هذه الحالة، وأن الضابط إذا أصر على مخالفته فليس لمجلس التأديب إلا أن يحيله ‏للاحتياط ثم إلى المعاش، وبالقطع سيترتب على ذلك مكافأة نهاية الخدمة والمعاش المنتظم، فضلًا عن الحقوق الصحية والاجتماعية، وما إلى ذلك من آثار، وهو الأمر الذى يختلف عن العزل تمامًا، ‏إذ إن العزل لا يرتب للضابط المعزول هذه الحقوق!.‏

والمستفاد من هذا الحكم، أن الضابط السلفى أو الإخوانى الذى أصر على تربية لحيته وهو فى الخدمة سيجلس واضعًا ساقًا على ساق وندفع له نحن المواطنين من ضرائبنا معاشه ومكافآته ‏وعلاجه نظير تطرفه وعدم انضباطه، وحتى تقطع علينا المحكمة الطريق قدمت فى حكمها بحثًا شرعيًا عن اللحية، وناقشت ما انتهى إليه العلماء بشأنها، فهذا يراها واجبة، وذاك يراها سُنَّة، وثالث ‏يراها من العادات والأعراف، ثم قالت المحكمة إن كل مسلم له الحق فى اختيار ما يشاء من هذه الآراء، بمعنى أنه لا تثريب على الضابط أن يلتحى، ثم خفف الحكمُ علينا وطأة هذا الرأى بأن قال ‏ولكن اللحية تخالف الشكل الانضباطى فى الشرطة، لذلك فإنها- أى المحكمة- قامت بتوقيع جزاء على الضابط الملتحى بخصم خمسة عشر يومًا من راتبه، ولكن العزل فكلا وألف كلا، فهذا الجزاء ‏عندها من الجزاءات التى انحرفت بها وزارة الداخلية عن الطريق القويم، ورغم أن الحكم ذكر أن هذا الجزاء من السلطة التقديرية لمجلس تأديب الشرطة إلا أنها رأت أن مجلس التأديب تعسف، فهو ‏متعسف. نحن هنا أمام قرار صادر عن جهة الإدارة، رأت المحكمة أن الإدارة وإن كانت تملك الحق فى إصداره إلا أنها تعسفت، لأنها كان من الممكن أن تصدر قرارًا أقل من ذلك، بحيث يصبح ‏الضابط الملتحى فى وظيفته و«يا دار ما دخلك شر!»، أى أن المسألة متعلقة بالمواءمة فى إصدار القرار، أظننا نفهم بهذا الشكل ما انتهت إليه المحكمة، ولكننى أقول إن الحكم لم ينظر إلى مصر ‏كلها وهو يضع تلك الأسباب، لم ير الحكم الشهداء الذين أودى بهم البعض من هؤلاء الضباط، لم ينظر للمصلحة العامة على الإطلاق ولكنه نظر لمصلحة الملتحين الذين خالفوا المسلك الوظيفى، ‏لذلك فإننى وأنا فى معرض التعليق على الحكم أذكر بعض أشياء قد تساعدنا على فهم كيف انحرف الحكم وهو يعطى لهؤلاء الضباط ما ليس لهم، ففى أحد أيام عام ١٩٤٩ تخرجت الطالبة «عائشة ‏راتب» فى كلية الحقوق، ورأت أن تسلك طريقًا لم تسلكه أى فتاة من قبل، وهو التقدم لمجلس الدولة لشغل وظيفة مندوب مساعد، وهو أول السلم القضائى فى محاكم مجلس الدولة، وكانت محاكم ‏مجلس الدولة لا تزال فى بداياتها فى مصر، وهى معنية فى المقام الأول بالطعن على القرارات التى تصدر عن الحكومة، والحقيقة أن عائشة راتب كانت تستحق هذه الوظيفة القضائية، فقد كانت ‏من أوائل دفعتها، وقد تحمس لها الدكتور عبدالرزاق السنهورى الذى كان وقتها رئيسًا لمجلس الدولة، إلا أن بعض المستشارين فى المجلس رفضوا هذا الأمر واعتبروا أن تعيين امرأة فى منصب ‏قضائى هو مما لا يجوز، وناقشهم السنهورى كثيرًا إلا أنهم أصروا، فأراد أن يخرج من هذا الحرج فقرر إجراء امتحان للمتقدمين لعلها ترسب فتُريح ولا تستريح! إلا أن المفاجأة كانت فى حصولها ‏على المركز الأول فى الامتحان الذى كان عسيرًا، ولم يكن أمام السنهورى وقتئذ إلا أن يرفض طلبها، إلا أنه طلب منها أن تقيم دعوى ضد قراره الصادر بالرفض أمام مجلس الدولة، وللمفارقة كان ‏هو القاضى الذى سيحكم فى القضية، وعندما انفرد السنهورى بالأوراق ليصدر الحكم وجد أن قرار مجلس الدولة برفض تعيين عائشة راتب قاضية هو عين التعسف ذاته، ولذلك كان من الحرى ‏عليه أن يُصدر حكمًا بإلغاء قرار رفض تعيينها، والحكم بقبول تعيينها مندوبًا مساعدًا، ولكن الحكم جاء على غير ذلك، رفض السنهورى دعوى عائشة راتب، وقال فى حكمه إنه وازن بين سلطاته، ‏ورأى أن حكم الرفض هو الأولى حتى ولو كان يملك إصدار حكم القبول، وكان من أسبابه أن الشريعة لا تمنع تعيين المرأة قاضية، والقانون لا يمنع، وقواعد مجلس الدولة تعطى الحق للمجلس فى ‏قبول تعيينها، ولكنه نظر للرأى العام، وقال إن الرأى العام غير مستعد لقبول تعيين المرأة فى منصب القضاء، ولذلك فإنه لن يخالف توجهات الرأى العام، فكان أن رفض الدعوى والحسرة تتملكه. ‏وعلى مدار أجيال وأجيال صدر عن مجلس الدولة العديد من الأحكام التى تنظر للرأى العام نظرة بحث وتمحيص، لأنه لا يمكن أن يتضاد القضاء مع مجتمعه، فإنه إن فعل ذلك فقد مصداقيته أمام ‏المواطنين، ولكن بعد ثورة يناير تغيرت الأمور كثيرًا للأسف الشديد، فعندما توافق الإخوان مع المجلس العسكرى على تعديل الدستور وتمت الدعوة للاستفتاء على هذا التعديل، ورغم أن هذا التعديل ‏ترتبت عليه قسمة المجتمع، فأخذ أنصار الإخوان ومن والاهم يروجون أن الذين يرفضون تعديل الدستور إنما يريدون حرمان الأمة من مرجعية الشريعة الإسلامية، ثم أطلقوا على هذا الاستفتاء ‏‏«غزوة الصناديق»، إلا أن قضاء مجلس الدولة للأسف لم ينظر عن حق لمصلحة المجتمع بأسره ولكنه وقع تحت تأثير الجهات الأعلى صوتًا، وكان من ذلك أننى كنت قد أقمت ومعى الأستاذ ‏عصام الإسلامبولى دعوى أمام القضاء الإدارى بوقف تنفيذ قرار وزير الداخلية بالدعوى لهذا الاستفتاء، ورغم أن مصلحة مصر كلها كانت وقتئذ فى وقفه حسب أنه لا يجوز الاستفتاء على تعديل ‏سقط بموجب الثورة، إلا أن المحكمة الإدارية العليا رفضت الدعوى تأسيسًا على أن قرار الاستفتاء من القرارات السيادية التى لا يجوز الطعن عليها!. وحينما تمت الدعوى للانتخابات الرئاسية الأولى ‏ورأيت أنا ومعى جمهرة من المواطنين والمحامين أن الكفة ستكون مع محمد مرسى لا محالة، لأن تنظيم الإخوان هو الأكثر تنظيمًا، ومع علمى بخطورة هذا التنظيم على مصر، بل على الأمة كلها، ‏وعلى الإسلام نفسه، «ولا ينبئك مثل خبير» فكان أن أقمنا دعوى أمام مجلس الدولة بطلب وقف هذه الانتخابات، لأنها أقيمت على تعديل دستورى باطل فى شكله وفحواه، وكان مما قلته فى الدعوى ‏تعييبًا على التعديل الخاص بالمادة ٧٦ من الدستور أنه جعل قرارات هذه اللجنة الإدارية نهائية لا يجوز الطعن عليها أمام أى جهة قضائية، ما يعنى تحصين قراراتها، وكنت أعلم أن الإخوان عن ‏طريق طارق البشرى وسليم العوا هم من وراء هذا التعديل لكى يسهل لهم من خلال أدواتهم التى يتقنونها تزوير الانتخابات ثم جعلها بمنأى عن الطعن فيها، وكان مما قلته فى هذه الدعوى إنه: «رغم ‏الانتقادات الفقهية والدستورية التى وجهت لهذا التعديل إلا أن الأمور سارت فى مسارها المرسوم لها، وأنَّى لأى اعتراضات وقتها ولو بسند صحيح أن توقف رغبات الطغاة وهم يرسمون طريق ‏سطوتهم على مقادير البلاد!، فلا يخفى على أحد أن هذه المادة كانت مجرد حجر الأساس وزاوية الانطلاق نحو توريث الحكم للإخوان، وكأن مصر كانت بضاعة مزجاة من ميراث أبيهم، لم يكن فى ‏ذهن من فصَّل هذا التعديل فى تلك المادة آنذاك أى التفات لأفراد لجنة الإشراف على الانتخابات الرئاسية أو خلفيتهم القضائية بقدر ما كان جل همه تحصين قراراتها وجعلها بمنأى عن الطعن عليها، ‏وهو الأمر الذى يضمن لهم تمرير ما يريدون تمريره على أن يحمل القضاء بعد ذلك مغبة الاختيار أمام التاريخ، ألم تكن اللجنة مشكلة من قضاة؟! وقد كان هذا المسلك فى حقيقة الأمر معيبًا، ‏فالدستور غايته حماية الحقوق وصيانة الحريات، ليس فقط بإقرارها، وإنما أيضًا بتوفير آليات وأدوات ضمانها، ولا غرو فى أن الحماية القضائية أبرز هذه الأدوات وأنجح تلك الآليات، الأمر الذى ‏يجعل هذا النص فى صورته هذه يتناقض والغاية المرجوة منه، لا يتناقض مع الواقع فقط، وإنما مع نفسه أحيانًا، فالمادة ٦٨ من الدستور تنص على أنه لا يجوز تحصين القرارات الإدارية من ‏رقابة القانون، وبعد عدة مواد تأتى المادة ٧٦ من الدستور لتعطى الحصانة المؤبدة لقرارات لجنة إدارية تشرف على انتخابات الرئيس، الذى سيكون نائبًا عن الأمة وممثلا لها!»، ولكن مجلس الدولة ‏فى حكمه التفت عن كل هذا ولم ينظر لمصلحة مصر، فأصوات الغوغاء كانت قد تحكمت فأصمت الآذان، وترتب على ذلك أن استفاد الإخوان أيما استفادة من هذا الحكم، وبه دخلنا إلى عصر ‏الإرهاب والتدمير باسم الإسلام.‏
أما فى قضية «تيران وصنافير» فلا قرارات سيادية، كما كان الأمر فى الدعوة للاستفتاء على الدستور، ولا مصلحة الأمن القومى التى من الممكن أو من الحتمى أن تغيب عن ساحة التقاضى، ‏وبغض النظر عن هذا إلا أن الحكم سلك مسلكًا معيبًا لا أظن أنه حدث من قبل فى تاريخ مجلس الدولة، فلك يا قضاء مجلس الدولة أن تحكم بما تشاء، حتى ولو اختلف البعض مع حكمك، ولكن هل ‏يصل الأمر إلى أن توجه عبارات القذف فى حق من أصدر القرار المطعون عليه؟! هل من حقك يا مجلس الدولة أن تأخذك الحماسة وتحوِّل نفسك إلى حزب سياسى فتكيل الاتهامات وتسب وتشتم؟ ‏فتقول عن الجهة التى أصدرت القرار، وتقصد رئيس الجمهورية: «ثم إذا أرجعت البصر كرتين فى جميع حقب تاريخ مصر للقول بإنكار سيادتها على الجزيرتين ينقلب إليها البصر خاسئًا وهو ‏حسير» والخاسئ هو الذليل يا مجلس الدولة، الخاسئ هو الصاغر يا مجلس الدولة، والخاسئ تفيد احتقار المُخاطب، أما الحسير فهو الضعيف كليل النظر، أيليق فى قضائكم إهانة الجهة التى تصدر ‏القرار؟! هذه عبارات من الممكن أن يكتبها المحامى فى مذكرته ضد خصمه، نقبل أن يكتبها المحامى «خالد على» مثلًا لكنها تُحرم على مجلس الدولة، وما كان قرارًا سياديًا من قبل، أصبح قرارًا ‏إداريًا بعد ذلك، ولله الأمر من قبل ومن بعد.‏