رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأب جورج قنواتى.. أحد رواد الحياة الفكرية العربية


وُلد جورج شحاتة قنواتى بالإسكندرية فى ٦ يونيو ١٩٠٥. حصل على شهادة البكالوريا فى مدارس الفرير، اتجه فى بداية حياته إلى دراسة الكيمياء وعلوم الصيدلة، ثم التحق بكلية الصيدلة بجامعة الآباء اليسوعيين فى بيروت.

بعد حصوله على شهادة الصيدلة سافر إلى جامعة «ليون» فى فرنسا، حيث درس الكيمياء وتخرج مهندسًا كيميائيًا، لكن المعامل والمختبرات لم تكن إلا بداية الطريق للتفكر والتدبر العقلى، فكان أن حمل الرجل رحاله إلى الآفاق الأرحب، باحثًا عن حياة غير اعتيادية، واهبًا نفسه للعلم والدين، وبعد ٥ سنوات انخرط فى سلك الرهبنة الدومينيكية فى فرنسا وأصبح راهبًا فى سنة ١٩٣٤، أكمل دراساته الفلسفية واللاهوتية وتخصص فى الفلسفة الإسلامية وعاد إلى القاهرة إبان الحرب العالمية الثانية «١٩٤١» ولمدة تزيد على عشرين سنة ألقى المحاضرات فى كلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية.

اشترك فى المجمع المسكونى الفاتيكانى الثانى فى روما من ١٩٦٠- ١٩٦٤. وألقى العديد من المحاضرات فى روما وفى مدن أخرى لتنشيط الحوار بين الأديان والثقافات، كما قام بإعداد المواد الخاصة بالمسيحية بتكليف من الدكتور إبراهيم مدكور، أمين عام مجمع اللغة العربية، إذ كان هذا مسئولًا عن قسمى الدين والفلسفة فى هذا القاموس الضخم، فى دائرة المعارف الشاملة التى قام بإعدادها الأستاذ شفيق غربال، مع إضافة كل ما يخص العالم العربى الإسلامى.

كان دير الآباء الدومينيكان للدراسات الشرقية الواقع فى شارع مصنع الطرابيش بالعباسية يقيم حفلات شاى ويدعو إليها الشخصيات الثقافية والعلمية والدينية الإسلامية فى مصر، أمثال نجيب محفوظ وطه حسين، الذى زار الدير عدة مرات. ثم فى نواحى العمل المشترك اهتم الدير بترجمة مزامير داود النبى للأب «بوركى» إلى العربية عن العبرية. وقد عمل شقيق الدكتور «كامل حكبيرا»، وهو أديب متضلع، على إخراج هذه الترجمة بأسلوب عربى سليم.

وفى عام ١٩٦٢ مثّل الجامعة العربية فى مؤتمر ابن سينا. كما أوفدته الجامعة العربية أيضًا إلى إسطنبول لجمع المخطوطات حول ابن سينا، ومكث هناك ثلاثة أشهر متجولًا بين المكتبات يستقرئ المخطوطات وخرج من تلك الدراسات بكتاب «مؤلفات ابن سينا» نشرته الإدارة الثقافية التابعة للجامعة العربية. كما أن مؤتمر ابن سينا كان مناسبة لأعمال علمية أخرى، كما يقول الأب قنواتى: «اتصلت آنذاك بالدكتور طه حسين وعرضت عليه مشروع طبع كتاب (الشفاء) لابن سينا، وكان طه حسين على وشك تسلم حقيبة وزارة الثقافة، فوافق وسألنى عمن يمكن الاستعانة بهم، فتكونت لجنة من الدكتور إبراهيم مدكور، والأساتذة عبدالرحمن بدوى والأهوانى وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة التى سميت (لجنة ابن سينا والشفاء) وقد نشرنا مؤلف ابن سينا فى تحقيق علمى بخمسة عشر جزءًا».
من مؤلفاته الأخرى: المسيحية والحضارة العربية، والمسيحيون فى مصر، وفلسفة ابن رشد، وفى صحة إيمان ابن رشد فى ضوء الجدال بين فرح أنطون والشيخ محمد عبده، وتاريخ الصيدلة والعقاقير فى العصر القديم والعهد الوسيط. ولقد كان الحوار المسيحى الإسلامى الشغل الشاغل للأب قنواتى، وكان ثمرة ذلك أن قام الفاتيكان بتعيينه مستشارًا لهذا الحوار فى السكرتارية الخاصة بالمؤمنين غير المسيحيين. إن الأب قنواتى الذى كان الدافع الأول وراء هذه النهضة الدومينيكانية فى مصر كان منذ زمن طويل قد ارتضى لنفسه ما يُعرف بسر المصالحة بين الناس وسلك طريق النور وليس طريق الظلام وثقافة المحبة والتآلف وليس ثقافة العدوان والكراهية.
كان جورج قنواتى يعمل بقول السيد المسيح: «طوبى لصانعى السلام فإنهم أبناء الله يدعون»، وهى دعوة حرص على نشرها فى أقطار المسكونة كلها شرقًا وغربًا محاضرًا ومعلمًا فى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وآسيا، وكانت كلها تسارع فى إهدائه الدكتوراه الفخرية الخاصة بها.
يصف أحد تلاميذه الأوفياء بعض ما لمسه فيه، ويرجع تاريخ ذلك إلى منتصف الثمانينيات حين أراد هذا التلميذ الالتحاق بجماعة الدومينيكان الرهبانية، وقد تلقى خطابه الأول من الأب قنواتى مرحبًا به داعيًا إياه للحضور والتعرف عن قرب على الآباء الدومينيكان، ويومها كانت النصيحة الأولى: «اذهب وابحث عن إرادة الله فى حياتك بين إخوانك من البشر، كن رسولًا على مثال معلمك الذى لا يصيح ولا يخاصم، ولا يسمع أحد صوته فى الشوارع، قصبة مرضوضة لا تُكسر، وفتيلة مدخنة لا تطفأ». وكلها إشارات رمزية تحمل فى مجملها الحث على المحبة والتعايش المشترك موصيًا وصيته الأخيرة وصيحته الشهيرة: «احرص على التزود بالمعرفة صباح مساء، كل يوم؛ لأنه لا دين دون ثقافة، ولا ثقافة دون دين». وقد توفى الأب جورج قنواتى صباح الجمعة ٢٨ من يناير ١٩٩٤م، بعد أن ظل مدى حياته بدرًا للاتفاق فى زمان الافتراق.