رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الظاهرة الرمضانية ‏


ظهر الفتى رمضان وأطل بجناحى نسر -غير أصيل - مدعيًا أنه من صعيد مصر الحقيقى، فى حين أن صعيده جاء ماسخًا بنسخة تليفزيونية مفبركة.. لقد أطل من ظن أنه نسر حقيقى على ‏جماهيره -التى لم تعد غفيرة - فى جمعة من جمعات شهر رمضان الأربع، بأسطول سيارات يمتلكها، قائلًا لهم: «جمعة مباركة» فى فيديو نشره على موقع التواصل الاجتماعى «الفيسبوك»، ‏ضاربًا عصفورين بأسطول واحد ملىء بالسيارات!!. ‏
فقام بـ«زج الدين والتهنئة ذات الطابع الدينى» فى سياق استعراضى بامتياز، ليكون متاحًا، ربما، وفى استطاعة لجانه الإلكترونية ومريديه من شباب التوكتوك اللجوء للقرآن الكريم وآيات الذكر ‏الحكيم، كتكئة لإخراس أى صوت رافض له، مرددين الآية الكريمة التى تقول «وأما بنعمة ربك فحدث»، وما قاله رمضان ليس حديثًا، بل لغوًا وثرثرة، لتمرير وتبريد ذلك الاستعراض الفج فى ‏ذروة الأزمة الاقتصادية وموجة الغلاء الطاحن، التى تجتاح العالم ويعانى منها الجميع.. أغنياء ينتظرون لقب «فقير مطحون» وفقراء فى انتظار لقب «تحت خط الفقر».‏
وإن حاول البعض التفلسف وإضفاء شىء من السفسطة للسياق الاستعراضى، مرددين مثلًا مقولة «من حكم فى ماله فما ظلم».. فلقد ظلم. ‏
نعم.. لقد ظلم رمضان شباب بلده، بعد أن أجّج مشاعرهم بثورة من التطلعات، أعقبتها مباشرة ثورة إحباطات أكيدة ستتسرب حتمًا للشباب المطحون، بعد أن يعتلى توكتوك على طريقة «عبده ‏موتة» فى الحوامدية أو غيرها من مناطق مصر العشوائية، فى حين يركب رمضان أسطولًا من السيارات العديدة الفارهة، والتى لا يصدق هو حتى الآن- وعلى ما يبدو- أنه قد امتلكها بالفعل!! ‏وليزيد الطين بلة، يقول رمضان للشباب متحدثًا فى الفيديو الشهير «أصل أنا هوايتى السيارات».. واللى يزعل يزعل، فقيادة السيارة وامتلاك أسطول منها هُمّا هواية رمضان المفضلة فى نهار ‏رمضان، والشوارع تمتلئ بالتكاتك غير المرخصة التى تسير فى طرق وتعتلى كبارى غير مسموح لها بالسير عليها يقودها شباب متطلع محبط -صارت شهرة ونجومية وبلطجة «عبدة موتة»- ‏بالنسبة إليه نموذجًا وحلمًا ومثلًا أعلى، فى حين أن قيادة التوكتوك ستكون فى النهاية مصيره الأوحد المحتوم، ونهاية مطافه بل وجُل أمانيه.. شباب يريد سيولة مالية سهلة سريعة من جيوب ‏المطحونين المضطرين لركوب التوكتوك، بدلًا من التعب والكد فى تعمير هنا أو العمل فى مشروع هناك.. نزهة التوكتوك فى الهواء ليلًا خير له من شمس النهار الحارقة.. نعم لقد ظلم.. لقد ظلم ‏عندما صنف نفسه أسدًا ومنتقديه حميرًا!!. وهذا ليس ظلمًا فقط، بل ذنبًا وجرمًا وسبًا وقذفًا، وعلى المعنيين بالأمر حسابه عليه بالقانون، فلقد أساء رمضان لفئة من الشعب مختلفة معه فى التوجه، ‏ولديها ذائقة ومنظومة قيم مختلفة وإحساس مختلف ببواطن الجمال، لا يجدونها فى طريقته فى الكلام، ووقع كلماته على آذانهم غير محبب، هذا غير فشله فى انتقائه لكلماته، وذلك لأنه شخص لا ‏يقبل الاختلاف، فى حين يقبل التعددية فى اقتناء وقيادة أنواع مختلفة من السيارات الفارهة.. وبالطبع التهمة الملفقة حاضرة وجاهزة لهؤلاء المنتقدين له وعنوانها الكبير «الطبقية».. أنتم طبقيون أيها ‏المعترضون.. فرمضان هو نسر صعيدنا وقدوة شبابنا!!. فى حين يرى البعض أنه قد فقد عقله.. فالرشد بعيد كل البعد عنه.. يعافه ويعزف عنه أينما طلّ أو تحدث.. ففقد البعض غير القليل من ‏مريديه بعد تصريحاته الرعناء تلك هنا وهناك، ويراه البعض أيضًا شابًا مثيرًا للشفقة وربما للغثيان لدى البعض الآخر.. والناس خلقوا أحرارًا فى اختياراتهم وانحيازاتهم وذائقتهم، فشهية الامتلاك لدى ‏رمضان لا سبيل لها للشبع، وغريزة الاقتناء لديه قد أصابها الكثير من التضخم.‏
فعندما يقود المرء سيارة كان يرغبها أو يشتهيها -كما يشتهى غيره من الشباب فتاة يريد الزواج منها- ورغم امتلاكه لها بالفعل، وبعد أن صارت واقعًا لا حلمًا يستمر معه ولديه الإحساس والرغبة ‏بل والشغف فى امتلاك هذه السيارة أيضًا وتلك ثم تلك، حتى امتلك أسطولًا يتباهى به أكثر مما يتباهى، ربما بعائلته أو تحصيله الدراسى أو العلمى!! وهذا يعنى أن حاسة الشبع لديه قد أصابتها ‏مصيبة وعلّة لا براء منها. فهو يذكرنى بالفنان عادل إمام فى أدواره على الشاشة وليس فى الواقع بالطبع.. يذكرنى هذا الشاب رمضان ذو الشراهة الامتلاكية والذى يفضل السيارة وتُغنيه ربما عن ‏اختيار شريكة حياته بمشاهد كوميدية عديدة، ساقها زعيم الكوميديا العربية للتسلية والإضحاك وتوصيل رسائل مهمة.. يذكرنى هو مثلًا بشخصية «شعبان تحت الصفر»، لأن رمضان فى الواقع -‏وعلى ما يبدو - لا تهمه إلا ملايينه والأصفار التى تجاورها!! ويذكرنى أيضًا نسقه فى المعيشة بشخصية «بخيت» الذى كان جائعًا فطلب وجبات هائلة من الطعام أصابته بتخمة، ثم لوثة عقلية جعلته ‏يرقص ويغنى، وفى يده عظمة من لحم فخذ البقر، قائلًا: «أنا من البلد دى». فهل يجرؤ رمضان على أن يقول لجمهوره اليوم «أنا من البلد دي» أيها الشعب المطحون وهأنذا أستعرض سياراتى ‏عليكم، أربع سيارات أقودها جميعًا بيدين وقدمين فقط، ‏
كيف يتسنى لعاقل أن يقود ٤ سيارات فى كل مرة؟ ‏
وهل يحتاج المرء ليشبع أن يقتنى وحده ٤ سيارات؟ وربما أكثر، وإن تزوج رمضان فى يوم ما، هل سيستطيع إقناع زوجته بسيارة واحدة أم أنها ستطالب بثلاث؟، وإن أنجب رمضان طفلين فقط، ‏وكبر الطفلان وطالب كل منهما بـ٤ سيارات مثل أبيهما، بوصفه قدوتهما وقدوة شباب التوكتوك المطحون.. هل سيرفض رمضان؟ ‏
إن رفض كان منافقًا فى نظرهم ولهم الحق فهو كبيرهم، وإن قبل ستكون عائلة رمضان المكونة من ٤ أشخاص فقط تمتلك أسطولًا جديدًا قوامه ١٥ سيارة فارهة وشباب بلده فى الأزقة ‏والحوارى لا يملكون ثمن وقود تكاتكهم؟! إن كان ذلك هو العدل والإنصاف.. وإن كانت تلك هى الرسالة التى يريد رمضان إيصالها لجمهوره فلا يغضب إذن، ولا يصح له أن يسب من قال لهم ‏بسلوكه فعلًا لا قولًا «موتوا بغيظكم» وسبقها بوصفهم بالحمير، لأنه أسد الغابة التى يأكل فيها من يملك الأسطول قائدى التكاتك، بعد أن جعل منها ظاهرة مصرية غزت شوارعنا بعد أن جابت من ‏قبل شوارع الهند والخرطوم، وهنالك تسمى التكاتك بـ«الركشة». ‏
جمهورك ليس قطيعًا من الحمير أيها الأسد، وزئيرك لن يرهب المطحون، فأنت قابع فى غابتك، ومَن حولك يعمل ويكد ويعمر صحارى وكبارى لن يصل إليها التوكتوك بعد اليوم، فى ظل دولة ‏تعلى من شأن القانون، وتريد أن تصبح خير أمة أخرجت للناس.. الناس التى تبنى وتعمر وتكد وتكدح ليل نهار فى أعمال البناء والتشييد والتعمير.. دولة لن تسمح فى المستقبل القريب بالابتزاز ‏الدينى، ولن يخيل على شعبها من يقول لهم «جُمعتكم مباركة»، فأسطول سياراتك لن يبارك لهم جمعتهم.. وثقة فى الله سينتصرون بالعمل على أفعال المباهاة الصبيانية تلك.. فليس بالأسطول وحده ‏يشبع المرء.. لن ينتصر الأسطول الطويل المصفوف المعطل -وهو فى انتظارك - لتعتليه على حفارات البناء والتشييد التى يقودها رجال، وتقود سيدات فى صعيد مصر وحضرها سيارات ليل نهار ‏لخدمة الناس، لا ترويعهم أو صم آذانهم بموسيقى الغضب التى تصاحبك دومًا فى أذهان كثيرين، فى حين تستمع أنت فى سياراتك لأنغام البرنامج الموسيقى!!.‏
لقد ظلمت عندما أفسدت ذائقة الملايين لتجنى أنت الملايين، وارتقت ذائقتك أنت وحدك وارتقت حياتك بالمال الوفير، ولن يشفع لك تبرعك العلنى الإعلانى الدعائى بجزء منه لمرضى السرطان. ‏فمن يثق بالله حقًا يتبرع فى الخفاء ولوجه الله، ولا ينتظر جزاء فى الدنيا ولا شكورًا أما من يتباهى فله فقط ما أراد.‏