رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل نهى القرآن الكريم عن ولاية النصارى مطلقًا؟

جريدة الدستور

يفتح القرآن أبوابًا واسعة للرحمة‏، تيسر للناس سبل العيش المشترك فى سلام ووئام؛ وذلك من خلال ما ينطوى عليه من ثراء الدلالات، على نحو يتيح تعدد الأفهام وتنوع الرؤى.
لكن يبدو- لسوء الحظ- أن الناس يصرون على إغلاق هذه الأبواب عبر ضروب من التفكير والفهم الأحادى المغلق التى تعكس ما ينطوى عليه وجودهم من أشكال التحيزات والتعصبات والتمايزات والاستعلاءات وغيرها. طرائق الناس فى التفكير لا تنفصل عن طرائقهم فى العيش أبدا؛ وبمعنى أن المجتمعات التى تصهر كل أفرادها فى تجربة حياة مفتوحة تخلو من كل أشكال التمييز والتعصب، تسود فيها طرائق أكثر انفتاحا فى التفكير، من تلك التى تمايز بين أفرادها. ولقد كان ذلك ما عرفته تجربة الإسلام فى بعض لحظاتها فعلا، وعلى النحو الذى عرفت فيه نمطا من التفكير المفتوح، كالذى ازدانت به تجربة الأندلس مثلا (وهى التجربة التى لا تزال تأسر خيال العديدين من الذين يتطلعون لمستقبل أفضل للعالم). وإذا كان من المحتم أن ينشأ عن ضروب التفكير المشبعة بالتمايزات والتحيزات قواعد ومبادئ للضبط السياسى والاجتماعى، فإن الإشكال ينشأ من تصور الناس أن هذه القواعد والمبادئ المتحيزة إنما تصدر عن القرآن الكريم، وليس عن طريقتهم فى فهمه والتفكير فيه، التى لا تنفصل، بدورها، عن الكيفية التى يكون عليها حالهم فى الواقع. ولو أن الناس يتعاملون مع هذه القواعد على أنها نتاجات فهمهم الخاص، لما كان هناك أى إشكال على الإطلاق. إذ يؤدى تصور أنها تصدر عن القرآن الكريم إلى جعلها من مصدر إلهى (وبما يعنيه ذلك من تحويلها إلى مطلقات نهائية)، وأما تصورها فتصدر عن طريقة الناس فى التفكير والفهم، فإنه يجعل منها تكوينا ينتمى إلى عالم البشر (على نحو تقبل فيه التجاوز).
ولعل مسألة العلاقة مع غير المسلمين (النصارى مثلا) تطرح مثالا لأبواب الرحمة التى يفتحها القرآن أمام الناس. فإنه إذا كان القرآن ينطوى على دلالة النهى عن اتخاذ النصارى أولياء، فإنه ينطوى بالمثل، ليس فقط على ما يسمح بجواز هذه الولاية، بل على ما يقطع بحصولها فعلا. وغنى عن البيان أن ورود القول، فى القرآن، بكل من النهى عن ولاية النصارى وتجويزها فى آن معا، يرتبط بأن لكل من النهى والتجويز ما يبرره فى اللحظة التى ورد فيها؛ وبما يعنيه ذلك من أن القرآن لا يقدم، فى الحالين، موقفا مطلقا ينتهى فيه النهى إلى إلغاء التجويز، أو العكس، بل يقرر حكما مشروطا بشروط الواقع الفعلى القائم. وبمعنى أنه إذا استدعى الواقع الفعلى ضرورة النهى عن ولاية النصارى (كما حدث فعلا فى لحظة كانت فيها علاقة المسلمين بهم غير مستقرة)، فليتقرر حكم النهى، وإذا استدعى الواقع حكم جواز تلك الولاية (كما حدث فى لحظة أخرى كانت فيها العلاقة بين الطرفين مستقرة وودية) فليتقرر حكم تجويزها، فإنه ليس من حكم نهائى ومطلق بخصوصها، بل الحكم يدور مع الواقع.
تربط المصادر القديمة (موسوعات التفسير وكتب أسباب النزول) نزول آية النهى عن موالاة اليهود والنصارى بما جرى فى واقعة أحد (بين المسلمين وقريش)، حين أصر فريق من مسلمى يثرب (المدينة) على ربط انخراطهم فى جيش النبى الكريم (عليه السلام) باستمرار موالاتهم لليهود؛ وبما يعنيه ذلك من إدخالهم كطرف يلعب دورا حاسما فى المواجهة مع قريش. ولما كانت علاقة المسلمين باليهود (وربما النصارى) غير مستقرة منذ الهجرة إلى يثرب، فإن القرآن الكريم قد أورد النهى عن موالاتهم (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء)، لكيلا يكون لتلك العلاقة غير المستقرة أثر فى الإضرار بمصالح المسلمين. إن ذلك يعنى أن اضطراب علاقة المسلمين مع يهود يثرب (ومع النصارى) هو الأصل فى النهى عن موالاتهم، وليس لكونهم يهودا أو نصارى. إنه، بلغة الفقه، هو العلة التى إذا غابت جاز أن يتغير حكم النهى إلى الجواز. ولعل ذلك بالذات هو ما يقف وراء ما أورده القرطبى، فى تفسيره لهذه الآية، من أن أبا حنيفة قد أجاز للمسلمين موالاتهم (أى اليهود والنصارى) والانتصار بهم على المشركين؛ حيث الحكم عنده يدور مع العلة وجودا وعدما. فإنه لو كان النهى عن موالاتهم مطلقا؛ وأعنى صادرا عن مجرد كونهم يهودا أو نصارى، لكان القرآن الكريم قد قرره منذ البدء، ولم يكن ليسمح للمسلمين بموالاتهم أو طلب النصرة منهم أبدا.
وأما أن يكون القرآن قد سمح للمسلمين بموالاة النصارى، والاستنصار بهم بالذات، وأقر ذلك، بل أثنى عليه، فإن ذلك ما تقطع به آيات التنزيل المتعلقة بواقعة الهجرة إلى الحبشة. فقد أورد الواحدى النيسابورى فى كتابه أسباب النزول أن آية «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصارى...» قد نزلت فى النجاشى وأصحابه. حيث يروى عن ابن عباس قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبى طالب وابن مسعود فى رهط من أصحابه إلى النجاشى، وقال: إنه ملك صالح، لا يظلم، ولا يظلم عنده أحد، فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا، فلما وردوا عليه أكرمهم، وقال لهم: تعرفون شيئا مما أنزل عليكم، قالوا: نعم، قال: اقرأوا، فقرأوا وحوله القسيسون والرهبان، فكلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، قال الله تعالى: «ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا، وأنهم لا يستكبرون، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع». وهكذا تتضافر الرواية النبوية مع القرآن فى التأكيد، ليس فقط على جواز ولاية النصارى بالذات، بل على وقوع هذه الولاية فعلا؛ حيث يروى الطبرى عن المهاجرين من المسلمين قولهم: قدمنا أرض الحبشة، فجاورنا بها خير جار، أمنّا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. وإذن، فإنه الجوار والإكرام، والأمن على الدين والدنيا، وعدم الأذية (وكلها من معانى النصرة التى هى معنى الولاية فى القرآن) وقد عاشها المسلمون واقعا متحققا مع نصارى الحبشة. فهل لأحد، بعد ذلك، أن ينهى عن هذه الولاية مطلقا، أم أنه يلزمه الوعى بشروط السياق المحدد لحكمها؟
وفضلا عن كل ما سبق، فحين يدرك المرء أن مفهوم الولاية لم يرد، فى القرآن الكريم، بمعنى الحكم السياسى أبدا، بل بمعنى طلب النصرة فقط، فإنه لا يملك إلا القطع بأن القائل بدعوى عدم جواز ولاية النصارى، يتخفى وراء نهى القرآن الكريم- فى ظل ظروف بعينها- عن الاستنصار بهم، ليجعل منه نهيا عن توليهم مناصب الحكم السياسى، وهو ما لا يعنيه القرآن الكريم أبدا، بل إن ذلك ما يبدو وكأن التاريخ قد فرضه؛ وهو ما يحتاج بيانًا.