رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"مستجاب" عن أحمد زكي: هكذا أسس مدرسته المتفردة

أحمد زكي
أحمد زكي

يصدر قريبًا عن دار بدائل للنشر والتوزيع كتاب "عاشت الأسامي" للكاتب والروائي محمد محمد مستجاب، الكتاب يستلهم شخوصًا أثرت الحياة الفنية والأدبية ونبغوا في مجالهم، ونشر محمد محمد مستجاب الحلقة الأولى من كتابه وكانت عن الراحل أحمد زكي بعنوان "ولد من طين".

و"الدستور" تنشر حلقة مستجاب كما أوردها وبنفس السياق الذي ستنشر به في كتابه الجديد:

أحمد زكي.. ولد من طين
في ضخامة شاشة السينما أو ضآلة شاشة التليفزيون، في رهبة خشبة المسرح أو رقة لوحة تشكيلية، في جبروت ضابط شرطة أو خضوع سجين، في مُحب فقير لا يمتلك إلا وردة لمحبوبتة أو وزير طاغي يمتلك مقدرات كل شيء، في حدة عصا مدرس أو شقاوة تلميذ بليد، في دخان تاجر سموم أو سن حقنة مدمن، في قلم بريء لطالب جامعي يجمّل فقره أو سيجارة فقيرة في يد صعلوك، في أنامل طبال أو طلقة مجند، في أوراق محامي فاسد أو دفاتر موظف منضبط، في سجين هارب أو مطارد مظلوم، في ذيل سمكة أو ناب أسد، في جلباب بواب أو صيديري تاجر، في سن سكين أو فلاش الكاميرا، في سايس جراج أو امبراطور مخدرات..
في السينما أو المسرح أو التليفزيون، كان لابد أن تجده أو حتما ستجده، إنه.. أحمد زكي.
ذلك المتوهج والقلق والمقلق والمتألق والغيور والحاد والناعم والمندوة للفن السينمائي، الذي لا يستقر في مكان، يعشق التدخين، ويحب الصعلكة وينام في أي مكان، لذا لم يصبح له مسكن منفرد، فهو الساكن الأول في الفنادق المصرية، مشع وأكثر إشعاعًا أمام الكاميرا، تلك التى يستطيع أن يسرقها – بالمفهوم السينمائي- حتى لو كان المشهد أو الكادر به عشرات الممثلين.
إنه ذلك الأسمر ابن محافظة الشرقية، اليتيم، والمعذب في صغره لفقده الأب وحنان الأم التى تزوجت سريعا، تاركة الرضيع في حجر جده كي يربيه، ذلك الأسمر المفتقد لبئر الحنان والتائه وسط دوامة الأيام، يدخل قلوبنا بمدرسته الفنية المتفردة، والتى رسخها في أذهاننا وفي وجداننا السينمائي.
أحمد زكي: خليط من إتقان زكي رستم، وجبروت المليجي، وقوة فريد شوقي، وفروسية أحمد مظهر، وانكسار فاتن حمامة، وشقاوة أحمد رمزي، ومغامرة أنور وجدي، وتحدي شكري سرحان، وطموح عمر الشريف، ورشاقة عيون سعاد حسني، ووسامة رشدي اباظة.
هذا المندوة للفن السينمائي، وضعنا نحن المشاهدين في أكثر المواقف الدرامية المعاصرة قلقا وحبا وتوهجا، فهو لم يقدم لنا دوره أو شخصيته كي نراه ثم ننساه في خضم حياتنا الملتهبة، لا، لم يكن أحمد زكي من هؤلاء الفنانين، بل كان يحفر بدروه في ذاكرتنا تلك الشخصيات، حتي ولو قدمها أكثر من مرة.
فلن ننس دور الضابط القاسي في "زوجة رجل مهم" والمختلف كليا عن دوره المضطرب كضابط ملتزم في شخصية يحيى أبو دبورة في "أرض الخوف"، بينما يجسد دور مغاير لنفس الشخصية في فيلم "الباشا" كضابط يطارد زعيم شبكة منافية للآداب.
هكذا كان أحمد زكي، غير المتكرر وغير النمطي، والذي أنشأ مدرسته الخاصة، ووضع كثيرا من النجوم أو من جاء بعده على الشاشة الفضية أو التليفزيون في محاولة تقليده أو محاكاته.
فهو الممثل الوحيد الذي رحل وحاول نجوم الجيل الحالي أن يقلده، ومعظمهم خسر هذا الرهان؟ لماذا؟ لأن فن التقليد شيء والتمثيل والاتقان وفهم أغوار الشخصيات التى تقدم شيء آخر.
فلم يكن أحمد زكي متقمصًا فقط، بل وعى من أصدقاءه المقربين دور الفن ودوره كممثل، فتعلم من عاطف الطيب الكثير، العقلية الاجتماعية للمواطن البسيط، وفهم من محمد خان البعد الثالث للشخصيات، وذاكر من داوود عبدالسيد كيف يمتطي الشخصية بكل طقوسها، وأحب في خيري بشارة شقاوة الكاميرا التى يقف أمامها، وأتقن من شريف عرفة كيف يدخل قلوب المشاهدين.
ولأنه يعلم أن الفن السينمائي "فن جمعي"، أي ليس فنا تقوم به بمفردك، فخلف الكاميرا جيش من الكتّاب والمصورين والمخرجين، فهو وإن كان يطل بمفرده علينا على الشاشة واضعا بصمته على الدور، إلا أنه كان ممثلًا ملتزمًا وواعيًا لما هو مطلوب منه من المخرج أو مكتوب في السيناريو.
سيظل لأحمد زكي السبق في جعلنا نري الشخصية "النموذج" لكل شخصية قام بتمثيلها، أي أنه أول ما يداهم عقلك في تلك الشخصية عند استحضارها، فنحن نرى "أحمد سبع الليل" في فيلم "البريء" في ذلك المجند الجاهل المغلوب على أمره وغير الفاهم ما يحدث حوله، بعدها نراه كشاب تاه هو وحبه وحبيبته في شوارع العاصمة إلى أن يقبض عليه لأنه لم يجد هو وحبيبته لمكان يأويه في "الحب فوق هضبة الهرم"، وهو الأنامل الدقيقة لأرداف راقصة لاهية في "الراقصة والطبال"، بعدها نجده الضابط هشام القاسي والمعتز بنفسه ولا يرى في الكون إلا ذاته ومستقبله المهني في "زوجة رجل مهم"، كما أنه النموذج الرياضيي للشاب المكافح "محمد حسن" في رائعته والتى أبهرتنا ونحن صغار "النمر السود" أو تاجر المخدرات "زينهم" الذي يتوحش ويتوغل إلى أن يصبح أكبر تاجر مخدرات في مصر في "الإمبراطور".
وإذا جئنا إلى تلك الشخصيات التى تبدو غير مألوفة نظرا لهامشيتها على شاشة السينما مثل شخصية "المصوراتي" فنراه يقدمها وكأنه خلعها من أرض الواقع بكل تفاصيلها، فنرى حبه للتصوير وحبه لوجوه الناس التى يرسم على وجوههم ابتسامة في رائعة شريف عرفة "اضحك الصورة تطلع حلوة".
بهذه الأسس وضع أحمد زكي مدرسته المتفردة، والتى من الصعب أن تتكرر، ونحن لا نريد التكرار بل نريد الجديد، نريد أن يفهم من يطل علينا عقلية المشاهد العربي والمصري، ويفهم كيف يعبر عنهم وعن مشاكلهم.

اختبارات تمثيلية لقدرات استثنائية
يضاف إلى ذلك، ولأنه يحب التحدي ولا يحب التكرار مهما قدم الشخصية، الممثل الوحيد الذي قدم لنا السيرة الذاتية، وهو فن صعب جدا، يضاف إلى هذا أن هذه الشخصيات قريبة من ذاكرتنا التاريخية، وكان هذا التحدي كبيرا، ولكن أحمد زكي نجح فيه، نجح في تقديم سيرة عميد الأدب العربي "طه حسين" واضعا النجم الكبير محمود ياسين والذي قدم نفس الدور على شاشة السينما ومني بفشل كبير، بينما لم نستطيع أن نصدق أن هذا الفتي الأسمر بل صدقنا أنه عميد الأدب العربي، لدرجة أننا كنا نقلده في حركته وفي طريقة كلامه.
استطاع أحمد زكي أن يستعيد تلك الشخصيات من ملك الموت لنراها بأعيننا، فنرى في "ناصر 56" للمخرج محمد فاضل، الزعيم جمال عبدالناصر، وطريقة سيره أو نطقه للكلام أو تفكيره أو حتى إشعال سيجارته، وبنفس الإتقان وبطريقة أخرى تمامًا، نرى "أنور السادات" في فيلم "أيام السادات" لنشاهد نظراته وقلقه وطريقة كلامته المتفردة، بل ونرى الموقف القلق الذي وضعه التاريخ فيه لقيادة الأمة في ذلك الوقت، فنحن لم نر أحمد زكي بقدر ما شاهدنا السادات، وبنفس الإتقان والحرفية والمهارة الشديدة، يلقي لنا أحمد زكي قبل أن يرحل رائعته "حليم" فنراه وهو يتحرك ويسير ويمرض ويغني، وهذه جرأة شديدة، لأننا من عشاق عبدالحليم، ونراه يوميًا على شاشة التليفزيون في أفلامه، وأن يقدم نجما كأحمد زكي فهو هنا لا يخشي السباحة في هذه الأرض الوعرة للسيرة الذاتية، لأنه يمتلك موهبة متفردة وتصميم وحب كبير للفن السينمائي وللتمثيل.
هذا هو الفنان الذي يريد أن يحتل مكانة كبيرة في القلوب، وهذا هي مغامرة الإبداع وجماله وقوته أيضًا.
الممثل النموذج
كثيرون عملوا مع الممثل أحمد زكي، لكن قلة من المخرجين الذين استطاعوا إخراج المكنون التمثيلي والأدائي من داخله، قليلون من فهموا قدراته وما يستطيع فعله معهم، فتألقوا بأعمالهم كما تألق هو في أدوراه، يقف في المقدمة عاطف الطيب بأفلام "حب فوق هضبة الهرم" و"الهروب" يليه المخرج المتميز "محمد خان" في زوجة رجل مهم وأحلام هند وكاميليا" وخيري بشارة في كابوريا، وشريف عرفة في حليم والصورة تطلع حلوة.
ولن ننسى هنا دور الأب الروحي له "صلاح جاهين" في الاعتناء بهذه الموهبة التى تآكلت سريعا وتلاشت من على سطح الشاشة، لكنها تعيش في وجداننا وداخل عقولنا إلى الأبد.
يثبت كل ذلك أن التمثيل فن وعمل ودأب وسعي لتحقيق الكمال، وقبل كل ذلك –موهبة– عرف كيف ينميها بعد الإخفاقات التى لحقت به في بدايته بصفته شابًا غير وسيم وأسمر، ليحول كل تلك الطاقة إلى أكثر فنان أحببته الفتيات، ويظللن يحلمن به كما نظل نحلم به.
استطاع أحمد زكي أن يقلب كل المعايير الفنية للنجم الجان أو الوسيم، فمع بدايته حيث كانت ملامحه تجعل الكثير من المنتجين والممثلات يرفضن الظهور بجواره حتى ولو ثواني معدودات، وهو ما تحول بعد ذلك لفتى جذاب، وأصبح حلم الكثيرات سواء داخل الوسط الفني أو خارجه الارتباط به أو التصوير بجواره، تلك القدرة الغريبة على التحول من النقيض إلى النقيض هي الحقيقية الغائبة في رحلة أحمد زكي، فهو موهبة استثنائية معاندة وأكثر عنادًا مع نفسه.
لذا سيظل أحمد زكي في وجداننا السينمائي، كممثل متفرد، وموهبة وحالة استثنائية طلت على قلبنا السينمائي سرعان ما تلاشت، لكنها تستكين إلى الأبد في قلوبنا.