رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لبنى عبدالعزيز: الله تجلى لى في البلكونة وعمري 13 سنة

ايمن الحكيم ولبني
ايمن الحكيم ولبني عبدالعزيز

سكتت لبنى عبدالعزيز فجأة ولمعت عيناها ببريق غريب وقالت بصوت متهدج وهى تنظر إلى أعلى فى شىء لا أتبينه: «حصل مرة وأنا عمرى حوالى ١٣ سنة وكنت أيامها عايشة مع جدتى وكنا فى الليل، وبعد ما جدتى دخلت تنام طلعت وقفت فى البلكونة ولقيت نفسى مشدودة للسماء، قعدت أدعى ودموعى نزلت وقعدت (أنهنه) بصوت مسموع، كنت فى حالة غريبة، حسيت إن ربنا قريب منى قوى حالة من الصفاء الروحى الخالص لم تتكرر مرة أخرى، لقيت جسمى عمال يرتعش وروحى خفيفة كأنى طايرة فى السماء، تأكدت ساعتها إن قلبى مليان إيمان وإن ربنا بيقول لى: (أنا جنبك).. ولما حكيت لجدتى ما حدث طلبت أن أتوضأ وأصلى لله ركعتين شكر.. ومن يومها وآثار هذه التجربة الروحية معى لا تزال حتى اليوم».
وبعد أن انتهيت من حوارى مع الفنانة الكبيرة، قالت لى بابتسامة تختلط فيها الجدية مع الود: تعرف إنه حوار مختلف جدًا.
لم أكن فى حاجة إلى ملاحظتها، بالفعل كان الحوار جديدًا ومختلفًا، وتكلمت فيه لبنى عبدالعزيز عن منطقة بِكر فى حياتها، منطقة مغلقة لم يسبق أن فتحتها لأحد أو قل لم يحاول أحد أن يدخلها: «علاقتها مع الله».
لا تعرف لبنى عبدالعزيز اللف ولا الدوران ولم تسمع عن «علم اللوع»، فقد علمتها سنوات دراستها فى مدارس الراهبات أن تقول الصدق كل الصدق ولا شىء غيره، وعلمتها سنوات إقامتها الطويلة وسط الثقافة الغربية أن الكذب لا يليق بإنسان متحضر.. لذلك كنت على ثقة طوال هذا الحوار أن لبنى عبدالعزيز لا تتجمل ولا تذوق كلامها، وما تحكيه هو بالفعل ما حصل وأنه حقًا تفاصيل علاقتها مع الله.
فى استديو ٤٤ بالإذاعة المصرية، المكان الأحب إلى قلب لبنى عبدالعزيز حيث بدأت حياتها مذيعة فى البرنامج الأوروبى ووافقت أن تعود لمواصلة تقديم برنامجها الأشهر «العمة لولو»، جلست لأسمع من لبنى عبدالعزيز تفاصيل علاقتها مع السماء، ولنفتح معًا ذلك الصندوق المغلق فى داخلها عن ذلك الجانب الروحى فى حياتها ولا بد أن القارئ الكريم سيشعر بنفس الدهشة التى عشتها عندما يُفاجأ بأن تلك الفنانة الجميلة صاحبة الأدوار الجريئة فى السينما المصرية، من «أنا حرة، وغرام الأسياد، والوسادة الخالية، والعيب»، والتى لا يزال هناك من يتعامل معها على أنها «خوجاية» بحكم ثقافتها الأوروبية.. نقول إنهم سيفاجأون مثلى أن تلك «الخوجاية» لديها تجربة مدهشة فى التصوف.
هذه هى شهادة لبنى عبدالعزيز عن «الله فى حياتها».

أشعر بأننى محظوظة لأننى ولدت وتربيت وعشت فى ظل «الإسلام المصرى» بكل سماحته وأصالته، وفى ظل مجتمع يقبل ويرحب بالتعدد والتنوع ولا يسألك عن دينك، ففى محيطنا الاجتماعى وأنا طفلة أذكر أن أقرب أصدقاء لوالدى ووالدتى كان أونكل ألكس وزوجته جورجيت، فى أعيادنا الإسلامية يزورونا ويهادونا وفى أعيادهم نحتفل معهم ونذهب معًا إلى السينما والمسرح.
لم نكن وقتها نسمع عن التعصب الدينى ولا نعرفه، حكى لى صديقنا د. أمين عبيد ابن شقيق الزعيم الوفدى الشهير مكرم باشا عبيد أنه كان له صديق مسلم مقرب جدًا ويكاد لا يفارقه فى سنوات دراستهما فى كلية الطب، وذات يوم استأذن منه أمين لأنه ذاهب إلى الكنيسة مع أسرته، وعندها سأله صديقه المسلم: الله.. أول مرة أعرف إنك مسيحى، وكان ذلك بعد خمس سنوات زمالة يومية فى كلية الطب.
وألحقتنى أسرتى بمدرسة للراهبات، وأذكر أننى كنت أرتل الترانيم الكنسية ولم يكن فى الأمر أى حساسية، وأذكر أن أقرب صديقاتى فى سنوات المدرسة كانت طالبة كاثوليكية وطالبة يهودية، كنا نحن الثلاثى لا نفترق، نذاكر معًا ونأكل معًا ولم يكن الدين يشكل عائقًا أو حاجزًا بيننا.
فى ذلك الزمان، حيث كان الإسلام المصرى هو السائد والمسيطر، كان المجتمع لا يربط الأخلاق بالدين ولا يحكم على أخلاق فتاة من ملابسها وكان يُسمح لنا أن ننزل الشارع بالفساتين القصيرة دون أن نتعرض لمعاكسة ولا تحرش، وأذكر أننى قبل سفرى إلى أمريكا فى نهاية الستينيات رحت أعمل الدوبلاج فى الاستديو وأنا لابسة «مينى اسكيرت»، وكانت موضة المينى جيب منتشرة فى مصر وترتديه البنات فى الشوارع، بلا خوف ولا رهبة، بل عندما كان شهر رمضان يتوافق مع شهور الصيف الحارة كنا نرتدى الفساتين المفتوحة عندما نخرج بعد الإفطار للسهر أو للذهاب إلى السينما.. فيومها لم تكن السينمات تغلق أبوابها فى شهر رمضان.

هذه هى مصر الحلوة التى ولدت وعشت فيها، وهذا هو إسلامها السمح عندما سافرت إلى أمريكا لظروف يطول شرحها وأقمت هناك مع زوجى وأولادى وعندما عدت بعد سنوات طويلة من جديد إلى أرض الوطن، كان التغيير حادًا وصادمًا وفوق قدرتى على الاستيعاب والاحتمال.
صدمتنى حالة الهوس الدينى التى أصابت المجتمع المصرى، فلم أفهم أن يخرج مصرى ليفتى بتحريم أن يسلم المسلم على جاره المسيحى ولا يهنيه بعيده ولا يأكل معه.. صدمنى أن يقاس أخلاق الناس بملابسهم وأن تتحجب نساء مصر بدعوى الفضيلة وأن الشرع عايز كده.. يعنى مرة حصل إنى كنت فى ماسبيرو ونزلت ساعة خروج الموظفات لقيت قدام الأسانسير حوالى ستين بنت وسيدة كلهن بهيئة واحدة والحجاب هو القاسم المشترك.. حسيت ساعتها بالتغيير الفظيع، فأمام نفس الأسانسير قبل ما أسافر كنت تجد أجمل وأشيك بنات فى مصر.. المجتمع المصرى حصل له للأسف قفزة للوراء وأصبح الهوس الدينى مسيطرًا رغم إن بنات المشايخ الكبار فى زمانا كن سافرات، فلا يمكن أن يقاس الدين والأخلاق بقطعة قماش تغطى الشعر، فالله كما أعرف ينظر إلى قلوب عباده وليس لأجسادهم.
قالوا إن المصريين الذين سافروا إلى بلدان الخليج للعمل فى السبعينيات عادوا إلى مصر بهذا الإسلام الوهابى المتشدد، وهو إسلام لا نعرفه ولا نألفه، إسلام مختلف عن إسلامنا المصرى الوسطى الذى يعبر عن حضارة وثقافة مستوعبة لكل الحضارات والثقافات والأديان.. عندما أتأمل ما حدث وما يحدث أحس بحنين إلى إسلامنا المصرى.

تعرفت على الله من خلال جدتى وكانت سيدة من أصول تركية شركسية وكانت ست متدينة بطبيعتها وكل وقتها تقضيه فى قراءة القرآن وأداء الصلوات وهى التى علمتنى كيف أقرأ الفاتحة وأؤدى الصلاة لأول مرة.
كانت تقرأ القرآن بصوت عالٍ لأسمع منها وأتعلم وأحفظ، وكانت تمتلك شخصية قوية، وكان تأثيرها علىّ أقوى من والدى ووالدتى ولها الفضل الأول علىّ فى النواحى الدينية وكانت أحيانًا أثناء صلواتها أو قراءتها القرآن تدخل فى نوبة سكوت أو تأمل، تنفصل تمامًا وتسرح وبعدها تفهمنى أنه لا بد أن تكون هناك صلة وحوار خاص ومناجاة بين العبد وربه، وربما بتأثير جدتى أصبح بينى وبين الله حوار ومناجاة خاصة بعد أن تجلى لى بكرمه فى تلك الليلة وفى واقعة البلكونة التى حكيتها لك.. وأشعر أحيانًا بأن جسمى يرتجف وأنا بين يدىّ الله، وهو شعور روحى تعمق فى تجربتى «إذا اعتبرتها تجربة» مع التصوف.
فى طفولتى وبحكم أننى كنت الحفيدة الكبرى، كنت أنا المرافقة لجدتى فى زياراتها وجولاتها خاصة إلى مقام السيدة نفيسة رضى الله عنها، كانت من محبيها ومحاسيبها وتقضى فى رحابها ساعات طويلة، ورغم أننى كنت طفلة وقتها إلا أن هذا الجو الروحانى سحرنى وترك فىّ تأثيرًا بالغًا استمر معى طويلًا، ولعلمك فإن ما يتعلمه الإنسان فى سنواته الأولى يظل محفورًا بداخله، فهو حينها أشبه بالورقة البيضاء يمكنك أن تكتب عليها ما تشاء، لذلك فمن الثابت علميًا أن تعليم اللغات يُفضل أن يكون فى تلك السنين وبواكير العمر، أتصور أن لى ميولًا صوفية، وفى فترة حاولت تنمية تلك الميول بالقراءة والتعمق، وكان أولادى يهدوننى كتب التصوف فى عيد ميلادى وقرأت فى التصوف إلى حد ما فى تلك الفترة.. وما زلت بتأثيرها أحس أننى روح أكثر منه جسد.

اعتدت على صيام رمضان من صغرى، وفى سنوات الطفولة كان لرمضان طعم مختلف، صحيح أن الطقوس لم تتغير كثيرًا، هى نفسها ساعات الصيام وصلاة التراويح والأكلات الشعبية ولمّة العيلة والسهر خارج البيت فى الحسين والمقاهى المعروفة وبهجة العيال بالفوانيس والفرجة على التليفزيون والفول فى السحور.. لكنى أحس الآن أن الفرحة برمضان أصبحت مصطنعة، ولا تمس القلب ولا تثير فى النفس تلك البهجة الحقيقية التى كنا نعيشها زمان، كله بقى شكليات ومظاهر، حتى الدين فرّغوه من جوهره واكتفوا بمظهره.. المهم الطقوس وبعد ذلك لا شىء يهم على رأى إحسان عبدالقدوس.
كنت أحرص على أن يكون شهر رمضان فاصلًا روحانيًا من شهور العمل، وأقضيه فى العبادة والتأمل، ولم يحدث أن صورت أفلامى فى رمضان إلا مرة واحدة صورنا فيها عدة أيام فى رمضان، وكان التصوير يبدأ بعد الإفطار.
وعندما سافرت إلى أمريكا، كنت أحرص على الصيام، ولم تكن هناك المظاهر الرمضانية التى تربينا عليها فى مصر، وأحيانًا كنت أذهب إلى الإفطار الجماعى الخاص بالجاليات العربية، وأغلب الأيام أفطر بمفردى، وفى السحور كان لا بد من الفول على الطريقة المصرية، وأحيانًا كان شكله وطعمه يعجب أولادى.. فيأكلونه منى.

كنت أحب الشيخ الشعراوى، وأجلس لأسمع خواطره فى التليفزيون أو من خلال شرائط الكاسيت.. ربما كان هناك العديد من الدعاة فى ذلك الزمن، لكنى كنت أحب طريقة وأسلوب الشيخ الشعراوى.
وبعد كل صدمة فى فقدان عزيز، أعود إلى تلك الشرائط الدعوية وإلى شرائط القرآن الكريم لألتمس منها المدد، ففى تلك الحالة من الحزن والأسى، يشعر الإنسان بعبث الحياة ويفقد توازنه، ويكون فى حاجة لمن يُجْبر ضعفه ويواسى روحه.. ليستمر فى الحياة.
وعلى مستوى مقرئى القرآن، كنت زمان أترك الاختيار لجدتى، تقول هذا المقرئ صوته حلو فأسمعه، لكن ذوقى الشخصى يتجه إلى صوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وأذكر عندما توفيت جدتى أم والدى، فإنهم أصروا على أن يكون الشيخ عبدالباسط هو المقرئ فى ليلة العزاء، وبذلنا جهدًا حتى وصلنا إلى رقم تليفونه واتفقنا معه.
وبسبب ثقافتى الأجنبية ظللت لسنوات طويلة أقرأ القرآن بالإنجليزية من خلال نسخة مترجمة أهدانى إياها صديقنا العزيز على خليل، ليسهل علىّ قراءة القرآن وبعد فترة تطورت وكنت أقرأ نصفه بالإنجليزية ونصفه بالعربى، حتى كان رمضان قبل الماضى، ضبطتنى زوجة أخى وأنا أقرأ القرآن بالإنجليزية فثارت وصاحت فى وجهى كأننى أرتكب جريمة: «إيه ده.. مينفعش.. حرام.. لازم تقريه بالعربى»، وكانت ورطة بالنسبة لى لأننا كنا فى نهايات الشهر الكريم، وكان من سابع المستحيلات أن أنتهى من قراءة القرآن بالعربى، ومنذ رمضان الماضى بدأت أقرأ القرآن بالعربى فقط وهو أمر شاق ومرهق بالنسبة لى، وأحيانًا لا أفهم كثيرًا من الكلمات والآيات، لكنى أستمر وأترك أجرى على الله.
لا أستطيع أن أدعى أننى «عالمة» ومتعمقة فى الدين.. لكنى أستطيع أن أقول إننى قريبة من الله ومحبة لدينى وللناس ومستقيمة طول عمرى بلا ادعاء.
وما أرجوه أن يكتب لى الله زيارة بيته.. سأكون ممتنة له إذا دعانى، ويسّر لى تلك الرحلة المقدسة.. آمين.