رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البحث العلمى وإطلاق الطاقات




أمر مهم ورائع انعقاد المؤتمر القومى للبحث العلمى، تحت شعار «إطلاق طاقات المصريين»، رغم كل الظروف التى نعيشها، وبرعاية رئيس الجمهورية، الذى أكد فى كلمته للحضور أنه وبقراءة سريعة لإجمالى الدعم الذى قدمته الحكومة لمشروعات البحث العلمى ودعم الابتكار والمبتكرين، نجد أنه اقترب من ٣ مليارات جنيه.
يُقال دائمًا إن الجامعة هى الحصن والملاذ للعقل الإنسانى، باعتبارها بيت العلوم وموقع التجريب والبحث والنشر العلمى، ومن قبل ومن بعد الحضن والحضّانة الأهم للتربية والصعود الإنسانى بالأخلاق والقيم. فى الجامعة لا بد من حماية المبادئ الرئيسية والقيم العامة للناس والمجتمع، حتى يكون لوجودهم على الأرض دور فى الاندماج مع عناصر المنظومة العلمية العالمية، لتحقيق أمل تقدم الأمة والتنافس مع أصحاب قاطرات التميز وركابها.
لا ينكر أحد أن الجامعات فى مصر، قامت بدور رائع فى بناء الذات القومية، وتكوين اللبنات الأهم فى تشكيل الهوية الثقافية للإنسان المصرى، وتنمية الوعى السياسى والأخلاقى والقيمى لديه، وإعلاء مشاعر الانتماء العليا للوطن فى مراحل معينة فى تاريخ مصر.
انطلاقًا من ذلك التفهم لماهية الجامعة ودورها، كان لموقع الجامعة «المكان الجغرافى» منذ بداية النشأة تلك الهالة من الاحترام والتبجيل فى نفوس المنتمين إليها حتى أصبحنا نطلق عليه مصطلح «الحرم الجامعى» تشبهًا بمواقع العبادة فى إشارة لأهمية الحفاظ عليها من غارات الفساد والمفسدين.
إن المجتمع الجامعى وبعد مرور قرن من الزمان على إنشاء الجامعة الأم، بات من المفروض تراكم مجموعة رائعة من القيم الإيجابية الرئيسية لديه لعل من أهمها: الحفاظ على المسئولية الأخلاقية للأستاذ الجامعى، والدفع نحو اتساع مساحة الحرية الأكاديمية والبحثية والمنهجية وإعلاء مبادئ العلم، وإعمال الفكر الحر، والمعرفة والممارسة الديمقراطية، ونقل الخبرات والبحث عن القدوة والمثل الطيب.
الآن السؤال الذى بات مطروحًا بقوة: لماذا تتزايد ظاهرة السرقات العلمية بهذا الشكل الذى يُهدر كل ما نتحدث عنه حول ضرورة الالتزام بالقيم والأعراف الجامعية، وبما تشكله تلك السرقات من رسم ملامح الشك والريبة حول مدى أعداد المدرسين والأساتذة فى المعامل ومواقع الدرس والتعليم من الحاملين لشهادات الماجستير والدكتوراه المشكوك فى نسبها العلمى الخالص لهم، وانعكاسات ذلك على مدى نجاح العملية التعليمية، وتشكيل أنساق قيمية رفيعة وسامية داخل الحرم التعليمى.
قد يقول البعض إنه قبل الحديث عن مشاكل البحث العلمى، وأبرزها ظاهرة السرقات العلمية، علينا التوجه بقوة نحو تهيئة المناخ الملائم للبحث والتجريب وفرص اكتساب الخبرات. لا بد من وجود مكتبات جامعية يتم تحديث محتوياتها وتيسير وسائل البحث والتعامل مع القائمين على تشغيلها، وتزويدها بأحدث التقنيات فى مجال تشغيل المكتبات. أيضًا على الجامعات تيسير عملية ابتعاث أعضاء هيئة التدريس وزياراتهم مراكز البحوث العالمية ومشاركتهم فى المؤتمرات المهمة «بعيدًا عن مؤتمرات الاسترزاق والبيزنس والتهريج غير العلمى»، وكان لا بد من تطوير المعامل والورش فى الكليات العملية، ودعمها بأحدث أدوات التجريب والكوادر المدربة على إداراتها، بالإضافة لدعم الجوانب المادية لدى الباحث حتى لا ينشغل بمعوقات تهدر الوقت والجهد، وتؤثر بشكل سلبى على تواصل عمل الباحث بجدية والتزام بخطة البحث وبالتالى تراجع النتائج المرجوة التى يمكن أن تمثل نهاية صادمة لباحث شاب، قد يكون ممتلكًا لأدواته البحثية، بداية من فكرة واختيار موضوع البحث من الأهمية وحداثة التناول وزاوية الرؤية، ما كان يمكن أن يؤهله لتحقيق خطوات أكثر تسارعًا نحو نتائج أكثر إبهارًا.
وهنا أنا لا ألتمس الأعذار أو أبحث عن الأسباب لحرامى البحث العلمى، ففى كل الأحوال لا يمكن أن نغفر هذا السلوك المشين الذى يهدم مشروع البحث العلمى المصرى بل والعمل الأكاديمى من الأساس، إنما أردت أن تجد الأجيال القادمة من الباحثين، المناخ الطيب المحفز على بذل أقصى الجهود، بعيدًا عن تثبيط الهمم الذى قد يدفع الكسالى لاختصار خطوات البحث والاستسهال فى الاقتباس دون الإشارة للمراجع أو لصاحب الجهد العلمى الأصلى، وصولًا لسرقات فصول وأبواب كاملة، وفى النهاية ـ وفى أحيان كثيرة ـ انتقال صورة واسم الباحث من صفحات التعليم والبحوث إلى صفحات الحوادث بعد تعرضه لمحاكمات تأديبية.
إن من يدّعون أن ظاهرة السرقات العلمية، لم تصل إلى حد توصيف أنها تشكل ظاهرة، لا يدرون أن المشكلة لا تكمن فى مدى زيادة أعداد من يمارسونها، لأنها جريمة لها تبعات غاية فى الخطورة بداية من انهيار القيم وسقوط القدوة، وصولًا إلى وجود أساتذة تمت ترقيتهم إلى مناصب ومراكز عليا دون تأهيل حقيقى، وما يترتب على ذلك من ضعف علمى فى صفوف أعضاء هيئة التدريس.