رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: ممكن أرقام تليفونات أمهات الشهداء لو سمحت؟!


مثل كل تلميذ بليد يقف على السبورة غير قادر على ترتيب حرف واحد، وقفتُ أمام كلمة «أمهات الشهداء» بليدًا خائبًا، وارتعش الطباشير بين أصابعى فعجزت عن كتابة حرف واحد عن أسطورة أم واحدة منهن، كيف احتملتْ وثابرتْ وكتمتْ وجعها فى قلبها ووقفتْ صامدة تحتسب فلذة كبدها عند رب العالمين وتستغفر وتطمئن قلبها المكلوم بنعيم الجنة الذى يتراءى أمامها يحيط بابنها ليكون بردًا وسلامًا يظلل روحها المكسورة بوجع الفراق المؤلم، أقول بينما أنا بليد كما ترى غير قادر على تقديم ما يليق من تحية إجلال وإكبار.

تلقيت اتصالًا من ابنتى ضحى «٢٢ عامًا» تطلب «أرقام أمهات الشهداء علشان هى ومجموعة من صحابها وصحاب أختها شيرى هيتصلوا بيهم فى عيد الأم»، قالت كلامها وقفز قلبى من الفرحة، كنت أظنهم- الشباب- بعيدًا عما يجرى، كنت أظنهم فقدوا معنى كلمة وطن وقشعريرة الجسد مع الأغانى الوطنية، كنت أظن أن جيلنا العجوز فقط هو الذى يعرف معنى التضحية، وقيمة وعظمة الجندى الذى يحرس له حدوده فى هجيع الليل وصقيع البرد وقيظ الحر، قفز قلبى فرحًا وحمدت الله أن رزقنى بـ«ضحى» وشقيقتها «شيرى»، ورزق غيرى ببنات وشباب ما زالوا يحتفظون برائحة الوطن فى قلوبهم الصغيرة، يعرفون ما يجرى من حرب ضد بلادهم، لكنهم مشغولون بذواتهم وعراكهم مع الحياة وإيقاعها الذى أصبح أسرع مما يمكن للبشر أن يحتملوه، كبروا وسط دخان ثورة يناير وضجيج ما بعدها، واهتز يقينهم وزلزلت الأحداث وجدانهم، وتبلدت مشاعرهم حتى أيقظها بريق البطولات فى سيناء، فأعادت نبضًا كان متوقفًا لينتفض للدم المصرى مع رعد أصوات رجال الصاعقة المصرية على الجبهة تحية للمنسى وكتيبة الشهداء، فها هم شباب فى مثل أعمارهم يخوضون الصعاب بأجسادهم القوية ويقتحمون الجبال والتلال ويقدمون أرواحهم فداء لمعنى كان غائبًا اسمه «الوطن».

ألا يستحق كل واحد من هؤلاء الشباب الانحناء تقديرًا وإجلالًا؟ ما هذا الجمال يا رب العالمين، وأى كلام أمام ظاهرة عظيمة كتلك بدأت تنتشر بين شبابنا كما أخبرتنى ابنتاى؟، فقد استغرقتُ معهما فى الحديث، وعرفت أن تجمعات شبابية فى أكاديمية الفنون والجامعات تقوم بما هو أكبر من مجرد الاتصال بأمهات الشهداء، فقد تم تدشين مواقع إلكترونية بأسماء أبطال سيناء فى العمليات الأخيرة ورموز البطولات المصرية فى حرب الاستنزاف وهناك مجموعات تطبع «التيشيرتات» التى تحمل صور أبطالنا على الجبهة، كنت أسمع مندهشًا وفخورًا بالبنات أكثر من «الصبيان» فمعظم المجموعات تقودها الجميلات ونسبة وجودهن أعلى بكثير، وهن المثاليات وليس غيرهن، وهن حفيدات «إيزيس» التى جمعت أشلاء أوزوريس من البحار والمحيطات والوديان الشاسعة فى صبر وقوة واحتمال وإصرار وعزيمة، لتصنع أسطورتها الخالدة وتنجب «حورس» الولد القوى الذى سند ظهرها وانتصر لها وحارب «ست» إله الشر وهزم جيوش الغل والحقد والكراهية وأعاد النبات إلى أرض مصر الطيبة، وبقليل من التأمل فى واقعنا نكتشف أن الأسطورة المصرية التى كانت تذهلنا قديمًا، أصبحت حقيقة نعيشها ونراها فى صور متفرقة، وجميعها تجسد أسطورة الأم المصرية «إيزيس» سيدة الأرض وحارستها.

الأم التى انتظرت ابنها عائدًا من جبهة القتال بملابسه العسكرية، الأم التى احتملت قسوة فراق كبدها واستأمنت الله على روحه، الأم التى تبكى الآن وحدتها وتقلب أصابعها بحثًا عن دفء الأيام القديمة وصوت أولادها حولها، الأم التى تخرج فى الصباح باحثة عن رزق أولادها فى بيوت ناس ولاد حلال وناس ولاد كلب، الأم التى تفترش بلاط المستشفيات البارد تتضرع إلى الله باكية، تترجاه نجاة وليدها، الأم التى تمسح بلاط المؤسسات والهيئات والبنوك، الأم التى وقفت على باب المشرحة مكسورة القلب فى انتظار خروج جثمان بطلها الذى ضحى بحياته لوطنه، الأم التى تبيع أرغفة العيش على الأرصفة، الأم المريضة التى تعانى الألم وتستمد حياتها من خوفها على انفطار قلب أولادها، الأم التى تمسك بيد ولدها وتصطحبه إلى مصحات وعيادات، الأم التى ماتت وعلى جسدها رائحة التعب والشقاء، كل الأمهات اللائى أخلصن فى رسالتهن على قدر ما استطعن.. تحية وتقدير ودعاء من القلب بمزيد من عطائكن كى نمتلك القدرة على الحياة.