رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف قلبت مصر معادلات ربيع الغاز العربى؟




هناك نوعان أو مستويان من المناقشات السياسية فى عالمنا العربى، الأول هو ما يدور بين جنرالات المقاهى والسوشيال ميديا.. وهؤلاء يعتقدون أن النار المشتعلة فى سوريا منذ سبعة أعوام، هى ثورة على نظام الأسد من أجل الحرية والديمقراطية.
أما المستوى الثانى فهو مناقشات من يمتلكون وعيًا وفكرًا سياسيًا حقيقيًا، لكنهم مع الأسف لم يستطيعوا أن يقنعوا رجل الشارع العربى البسيط، أن المعارك التى هدمت مدنًا وشردت قرابة العشرة ملايين سورى، كانت بسبب الصراع على مد أنابيب الغاز إلى أوروبا مرورًا بالأراضى السورية.. وهى حرب يدرك أطرافها الرئيسيون، وهم روسيا وإيران وقطر، أن الرابح فيها سيضمن ضخ عشرات المليارات فى خزائنه.. ولذلك فلا مانع من دفع بعض الأموال لإحماء سعير المعارك فى الاتجاه الذى يريده كل طرف، وفى النهاية فإن الشعب السورى هو الخاسر الأول فيما يحدث.
ويخطئ من يعتقد أن تمويل الإرهاب ومحاولات تنشيطه فى شرق مصر وغربها بعيد عن لعبة حرب أنابيب الغاز، بل هو جزء لا يتجزأ منها، خاصة أن المؤشرات تؤكد أن مصر قلبت أطراف المعادلة لصالحها، بعد نجاحها فى التشغيل المبكر لحقل ظُهر الذى تنتظر أوروبا إنتاجه لكسر الاحتكار الروسى، حيث تحصل القارة العجوز على ٨٠ بالمائة من احتياجاتها من الغاز من روسيا، لتصبح بذلك رهينة لضغوط الكرملين على الكثير من قراراتها، فهذا الاحتكار هو الذى ألجمها عندما التهم بوتين شبه جزيرة القرم، وحشد جيوشه على حدود أوكرانيا.
دعونا نعود إلى الوراء قليلًا، لعلنا ندرك حقيقة ما حدث، ففى عام ٢٠٠٩، وقبل عامين من انطلاق ما يسمى الربيع العربى، شهدت دمشق قمة فرنسية تركية قطرية سورية، وفيها عرض الضيوف على الرئيس بشار الأسد، إقامة خط أنابيب عبر الأراضى السورية لنقل الغاز القطرى إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وبدا أن هذا قرار استراتيجى لأوروبا، ومصيرى لقطر التى كانت فى ذلك الوقت تملك أكبر احتياطيات من الغاز، وقد خسرت السوقين الأمريكية والآسيوية، ولم يعد أمامها إلا التوجه بكل قوة لأوروبا، وقد عرف فيما بعد أن الرئيس الأسد قال «لا» لهذا المقترح، بسبب تحالفاته التقليدية مع روسيا وإيران.
وعلى الفور بدأت الخطوات العملية لإسقاط نظام الأسد، اعتقادا من عدة أطراف بأنه لم يعد هناك بديل عن السعى لإقامة نظام جديد فى سوريا يسمح بمد الأنبوب الذى يحمل الغاز القطرى بالمرور إلى أوروبا. وحتى لا نعطى قطر أكبر من حجمها، فإن غاز قطر تتحكم فيه شركة إكسون- موبيل الأمريكية، التى تملكها عائلة روكفلر الأمريكية، أى أن مرور هذا الأنبوب فى الأراضى السورية يصب فى مصلحة الولايات المتحدة.
وهذا يفسر الإصرار القطرى وإصرار أطراف خليجية أخرى على ضرورة رحيل الأسد، وهى رغبة تدعمها واشنطن بشكل معلن وصريح، رغم أنه لا يوجد بديل له تتفق عليه فصائل المعارضة السورية.
صورة حرب الغاز التى تدور فى سوريا معقدة، ويمكن تبسيطها من خلال ذكر ثلاثة أسماء تتردد فى هذا المجال وهى: نورث ستريم، وساوث ستريم، ونابوكو.. إنها أسماء لثلاثة خطوط أنابيب لنقل الغاز إلى أوروبا.
فروسيا وهى أكبر مصدر للغاز فى العالم، كانت تمد أوروبا باحتياجاتها من الغاز عبر خط «نورث ستريم» الذى يربط حقول الشمال لديها بألمانيا عبر بحر البلطيق.
وقد ترجمت أوروبا رغبتها فى كسر الاحتكار الروسى بتدشين مشروع لنقل الغاز الطبيعى من بحر قزوين عبر أذربيجان والأراضى التركية، وذلك بتمويل أوروبى ودعم أمريكى وأطلق عليه خط أنابيب «نابوكو».
وردت روسيا على هذه الخطوة، بتدشين خط منافس لنقل الغاز من حقولها الجنوبية عبر البحر الأسود ليصل إلى أوروبا، وأطلقت عليه «ساوث ستريم».
ويرى كثيرون أن التمسك الروسى بنظام بشار الأسد نابع من إدراكهم أن سقوطه سيتيح الفرصة لإقامة نظام بديل، ربما يسمح بإنشاء خطوط أنابيب لنقل الغاز من إيران وقطر، عبر مد أنبوب عبر السعودية وربطه بأنبوب الغاز العربى الذى أنشئ عام ٢٠٠٣ لنقل الغاز المصرى من العريش إلى الأردن وسوريا وربطه بمشروع «نابوكو» لتصدير الغاز إلى أوروبا، أو إنشاء أنابيب لنقل الغاز القطرى المسال بالسفن إلى الموانئ الأوروبية.
ولهذا أيضًا يمكن أن نفهم سبب حرص روسيا على توريط تركيا فى الصراع فى سوريا، وتحريض الأكراد فى الوقت نفسه فى تركيا على مواصلة قتالهم ضد حكومة أردوغان، فاستمرار الصراع على الحدود السورية بين الأتراك والأكراد يزيد من التهاب المنطقة، ويجعل إقامة أى خط أنابيب لنقل الغاز إلى أوروبا مغامرة غير مأمونة العواقب.
وهذا أيضًا يفسر لنا على الجانب الآخر، هذا الإصرار القطرى لإشعال النار فى سوريا، والاستماتة بكل السبل من أجل إسقاط بشار الأسد.
وإذا أدركنا فى نهاية المطاف أن هذا الصراع الدموى الدائر فى سوريا كان صراعًا من أجل أنابيب الغاز، لاستبدال ١٩٣.٩ مليار متر مكعب من صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا، بغاز قطرى، فسوف ندرك بطبيعة الحال أهمية ظهور مصر فى هذا التوقيت، حيث تشير جميع الدراسات إلى أن مصر بحلول عام ٢٠٢٠ ستصبح من أكبر الدول المنتجة للغاز الطبيعى فى المنطقة، من حقولها الجديدة فى البحر المتوسط وشرق الدلتا، وأن هذا الإنتاج سيحقق لها اكتفاء ذاتيًا وفائضًا للتصدير، كما سيمكن مصر من إنشاء خط لتصدير الغاز الطبيعى إلى أوروبا عبر قبرص واليونان.
إذن، فإن الإنتاج المبكر للغاز المصرى قد قلب المعادلة فى المنطقة رأسًا على عقب، ليس فقط بالنسبة لأوروبا التى ستتمكن فى حال وصول إمدادات الغاز المصرى إليها، من تحقيق هدفها الاستراتيجى بكسر الاحتكار الروسى، ولكن أيضًا بالنسبة لثلاث دول من مجلس التعاون هى الإمارات والكويت والبحرين، وهى من الدول المستوردة للغاز، وقد لوحت قطر بعد بداية المقاطعة الرباعية لها، بورقة الغاز، حيث أشارت إلى أن إمدادات الغاز القطرى للإمارات لن تتوقف، رغم أن خط الغاز المتجه للإمارات يستهدف التصدير فى المقام الأول.
ولا شك أن قطر تدرك أن التدفق المبكر للغاز المصرى، قد وضعها فى موقف صعب، وأغلق أمامها أبواب التصدير إلى أوروبا، وهذا أيضًا يفسر سعيها لتمويل جميع التنظيمات الإرهابية التى تعمل ضد مصر، لاعتقادها أن استقرار مصر ليس فى مصلحتها، لأنه سيدفع لمزيد من الاكتشافات من حقول الغاز.
إنه إذن ربيع الغاز فى المشرق العربى الذى قلبت مصر معادلته، وأضاعت جهود الذين دفعوا المليارات من أجل إشعال نيرانه، ولكن أغلب جنرالات المقاهى والسوشيال ميديا لا يعلمون.