رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إعدام ميت».. إخفاء جرائم قتل بـ«تصاريح دفن مزورة» (تحقيق)

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

«تصريح دفن».. عبارة دائمًا ما ترتبط بأحزان ودموع وصرخات يطلقها الأحياء على من فقدوهم ورحلوا عن عالمنا، فاستخراجه يأذن بمواراة الفقيد الثرى، لكن لا يعلم كثيرون أنه يمكن استخدامه فى ضياع حقوق عديد من الأموات، الذين قضوا نحبهم قتلًا، وذلك بأن يتضمن ذلك «التصريح» أن «سبب الوفاة طبيعى» رغم أنه غير ذلك.

كيف يحدث هذا؟.. الإجابة تكشفها «الدستور» فى ذلك التحقيق، الذى يثبت تورط مفتشين بمكاتب الصحة، فى استخراج «تصاريح دفن» لضحايا «جرائم قتل»، وتصنيف الحالات كـ«وفاة طبيعية» مقابل رشاوى مالية، وهو ما يؤدى إلى ضياع حقوق أسر وذوى الضحايا، فى غياب تام لرقابة قطاع الطب الوقائى، التابع لوزارة الصحة، على أنشطة تلك المكاتب.

أسماء طعنها شقيقها واستخرج تصريح دفنها بـ35 جنيهًا.. وعائلة قاتل جلال أنقذت ابنها بـ«الرشوة»
فى ١٥ يونيو ٢٠١٠، تعالت أصوات الصراخ داخل أحد منازل مركز البدارى التابع لمحافظة أسيوط، معلنة عن وفاة «أسماء»، ٢٥ عامًا، التى زعمت أسرتها أنها وقعت على سكين حاد شق بطنها أثناء إعداد الطعام، ما تسبب فى إصابتها بنزيف حاد، إلى أن تم نقلها إلى الوحدة الصحية التابعة للمركز، وهى «جثة هامدة».
تمت إجراءات الدفن سريعًا، بعد أن طلب الأهل من مفتش الصحة التابع للقرية توقيع الكشف الطبى اللازم على الجثة، فاستخرج تصريح دفن لذويها، وكتب فيه: «سبب الوفاة طبيعى: هبوط فى الدورة الدموية»، لكن عند تغسيل جسد الفتاة، لاحظت «المُغسلة» أن الجرح فى بطنها كان قطعيًا وليس رأسيًا، حسبما قال «حسين السيد» أحد أقاربها من الدرجة الثانية للأم، ويعمل فى دفن الموتى «حانوتى».
السيدة التى غسّلت «أسماء» تشككت فى رواية الأسرة ورفضت إتمام عملية التغسيل قبل استدعاء النيابة العامة وفتح تحقيق فى الواقعة، وهو ما حدث بالفعل، وتوصلت تحريات النيابة العامة إلى أن الوفاة جنائية (قتل) وليست طبيعية.
وكشفت تحريات النيابة أن تصريح الدفن الذى خرج لها بمحضر رقم «٢٩١ لسنة ٢٠١٢ أسيوط»، كان مزورًا لإقراره أن الوفاة طبيعية، ثم ثبت فيما بعد أنها قُتلت على يد شقيقها الأكبر إثر شجار نشب بينهما فى غياب الوالد، ثم ادعى كذبًا أنها سقطت على سكين دون تعمد منه، وشاركه ادعاءه والده وشقيقه الثانى، خوفًا من أن يُسجن الأخ الأكبر بجريمة القتل.
دفع الأخ القاتل لمفتش الصحة ٣٥ جنيهًا لاستخراج التصريح المزور، حسبما كشفت النيابة فى تحقيقها الذى انتهى إلى اتهام مفتش الصحة بـ«جريمة التزوير»، وصدر قرار بإيقافه عن العمل، وحُكم بـ«المؤبد» على الأخ الأكبر، لتورطه فى جريمة قتل والتحريض على التزوير والرشوة المالية.
«أسماء» لم تكن الحالة الوحيدة، فـ«جلال» ٢٥ عامًا، من منطقة وسط القاهرة، كان ضحية مشاجرة وقعت فى يونيو ٢٠١٣، بين مجموعتين من الشباب، وأطلق أحدهم النيران عليه فاستقرت رصاصة فى صدره أردته صريعًا فى الحال، ونقل إلى مستشفى إمبابة العام جثة هامدة.
المستشفى استخرج له تصريح دفن (تشخيص الطبيب)، رغم إصرار أهله على تشريح الجثة وتوقيع الكشف الطبى عليها، إلا أن أهل الجانى كانوا من «عائلة كبيرة» حسبما قالت شقيقته «بسمة» لـ«الدستور» مضيفة: «حاولوا ترضيتنا وهددونا بالقتل، وفى النهاية لجأوا إلى تزوير تصريح الدفن بأن الوفاة طبيعية، وخرج التصريح حاملًا رقم ٨٦١٥ لسنة ٢٠١٣».
دُفن «جلال» فى مقابر عائلته فى المنيا، بعد نجاح عائلة الجانى فى تزوير تصريح الدفن الخاص به بناء على تشخيص مزوَّر من الطبيب أُرسل إلى مفتش الصحة.
تقول شقيقة «جلال»: «لم نستطع فعل شىء، وخرج تصريح الدفن بزعم أن وفاته طبيعية سببها هبوط حاد فى الدورة الدموية، وذلك على الرغم من شهادة كل من كانوا فى المشاجرة بأنه أصيب برصاصة، وطلبنا تشريح الجثة لكن ذلك لم يحدث».
فى أكتوبر ٢٠١٤، كان الموعد مع حالة ثالثة، بتقدم «مؤمن»، ٢١ عامًا، من مركز أبوتيج بمحافظة أسيوط، لخطبة «مروة» ١٩ عامًا، فرفض أهلها بحجة عدم انتمائه للعائلة، لكن العلاقة بينهما استمرت فى الخفاء، فى الوقت نفسه تعرضت «مروة» للإجبار من قبل ذويها على الزواج من ابن عمها «محمود»، ٤٠ عامًا، وهو ما تم، لكنها لم تحتمل الفتاة العيش مع زوجها أكثر من شهر واحد.
اتفقت «مروة» مع «مؤمن» على استدراج الزوج إلى جزيرة فى النيل وقتلاه بطريقة الذبح، واستخرجا تصريح دفن مزوّرًا له من مكتب الصحة التابع للمنطقة، يفيد بأن «الوفاة طبيعية» إلا أن أهل الزوج تقدموا ببلاغ يفيد باختفائه.
تم استدعاء «مؤمن» و«مروة» من قبل النيابة العامة والتحقيق معهما، واعترفت الفتاة بتنفيذها الجريمة واستخراجها تصريح دفن مزورًا بالاتفاق مع مفتش الصحة، وتمت إحالتهما إلى محكمة الجنايات بأسيوط، وصدر ضدهما حكم بالإعدام، وإيقاف مفتش الصحة عن العمل ومحاكمته بتهمة التزوير، حسبما روى وكيل النيابة الذى حقق فى القضية التى قيدت برقم «٧٤٨٩ لسنة ٢٠١٤»، تفاصيل الواقعة كاملة لـ«الدستور» فى حديث مُسجل.
وتتشابه تلك الواقعة، مع أخرى، وقعت فى مطلع ٢٠١٢، حمل محضرها رقم «٥٨٥٣ جنايات مركز أوسيم» التابع لمحافظة الجيزة، والمقيد برقم «٢٣٩ كلى شمال القاهرة»، وحصل «الدستور» على نسخة خاصة من أوراق القضية.
وفى التفاصيل، جمعت علاقة غير شرعية سيدة تدعى «ياسمين.ع» مع «حسين.أ» وانتهت العلاقة بقتل زوج الأولى «أحمد.م» (ابن عمها) عن طريق شنقه فى شقته، وتزوير تصريح الدفن بعد رشوة مفتش الصحة، تهربًا من المساءلة القانونية.
أما عن تفاصيل اكتشاف الجريمة فتعود لشكوك أهل المجنى عليه فى واقعة الوفاة، وتم إبلاغ النيابة العامة، وانتداب الطب الشرعى وتشريح الجثة، وثبت أن الوفاة جنائية، واعترف المتهمان بالجريمة، فأحالتهما النيابة العامة مع مفتش الصحة إلى محكمة شمال الجيزة، وتم الحكم بتاريخ ٥ فبراير ٢٠١٤ على الزوجة بالإعدام شنقًا، والمتهم الآخر بالسجن المؤبد، وإلزامهما بدفع المصروفات الجنائية، كما تم فصل مفتش الصحة من العمل.

«الدستور» يستخرج تصريحًا بـ20 جنيهًا خلال 5 دقائق داخل منزل المفتش دون كشف طبى
إلى جانب الحالات التى وثقناها، وتثبت تورط مفتشى صحة فى الحصول على رشاوى مقابل تزوير تصاريح الدفن، أجرت معدة التحقيق جولة ميدانية كشفت جانبًا آخر أكثر خطورة، وهو الفوضى والإهمال المتفشيان فى منظومة استخراج تصاريح الدفن من مكاتب الصحة فى بعض المحافظات.
وتتمثل تلك الفوضى فى قدرة أى مواطن على استخراج تصريح دفن، دون أن يوقع مفتش الصحة الكشف الطبى القانونى على المتوفى، ليتأكد من أن الوفاة طبيعية وليست جنائية، وحتى يتأكد من وجود جثة بالفعل، حسبما تنص المادة «٣٨» من قانون الأحوال المدنية رقم ١٤٣ الصادر سنة ١٩٩٤. الجولة كانت فى منطقة «الزاوية الحمراء» فى محافظة القاهرة، حيث اصطحبت معدة التحقيق السيدة إيمان محمود، ٢٦ عامًا، توفيت جدتها فى مستشفى «التحرير العام» فى منطقة إمبابة، بسبب إصابتها بجلطة فى المخ، لاستخراج تصريح دفن من مكتب الصحة التابع للمنطقة، وأعطانا طبيب بالمستشفى ورقة مكتوبة بخط اليد، تؤكد أن «المستشفى يخلى مسئوليته عن الجثة» دون أن يوقع الكشف الطبى عليها.
الطبيب قال لنا «إن تصريح الدفن يخرج من مكتب الصحة التابع للمنطقة» دون أن يعطينا تقريرًا طبيًا عن الحالة.. ذهبنا إلى مكتب الصحة بالمنطقة، لإحضار مفتش الصحة إلى المستشفى كى يوقع الكشف الطبى على الجثة ويستخرج تصريحًا بالدفن، إلا أننا لم نجده فى مكتبه، وأرشدنا البعض إلى عنوان منزله القريب من المكتب.
ذهبنا إلى منزل مفتش الصحة، وفوجئنا أن دفتر تصاريح الدفن والختم الرسمى الخاص بالمكتب بحوزته فى المنزل، وعند إخراجنا ورقة الإبلاغ بحالة الوفاة تجاهلها تمامًا، فطالبناه بالذهاب إلى المستشفى للكشف على الجثة، وتحديد سبب الوفاة واستخراج تصريح الدفن، إلا أنه قال «ليس هناك داعٍ لذلك» ولم يستغرق إصدار تصريح الدفن أكثر من ٥ دقائق مع ٢٠ جنيهًا.
كتب مفتش الصحة أمام سبب الوفاة: «طبيعى» دون الذهاب إلى المستشفى وتوقيع الكشف الطبى القانونى على الجثة، ولم يتأكد من وجود جثة داخل مستشفى «التحرير العام» من عدمه.
تقول «إيمان»: «نفس الأمر تكرر مع جدتى لأبى، التى توفيت مطلع ٢٠١٧، فى منزلها بمنطقة الزاوية الحمراء، فحينها استطاع والدى استخراج تصريح دفن لها من مكتب الصحة التابع للمنطقة، دون أن تذهب مفتشة الصحة المختصة إلى المنزل وتوقع الكشف الطبى على الجثة وتحدد سبب الوفاة».
وأشارت «إيمان» إلى أنه عقب مغادرة أبيها للمكتب وتسلمه التصريح «الذى يؤكد أن الوفاة طبيعية» اتصلت به مفتشة الصحة تسأله عن سبب الوفاة لتسجيله على الجهاز الخاص بها، فى مشهد يشير لفداحة الفوضى فى منظومة مفتش الصحة.
ويخالف ذلك المادة ٤٠ من قانون الأحوال المدنية رقم ١٤٣ الصادر سنة ١٩٩٤، التى تنص على أنه: «يجب على مفتش الصحة المختص بتلقى تبليغات الوفاة أن يتحقق من شخصية المتوفى، واستيفاء بيانات التبليغ، والمستندات المؤكدة لصحة الواقعة وبياناتها، وسبب الوفاة، فإذا تعذر عليه التحقق من شخصيته يحيل الأمر للنيابة العامة».

مفتشو صحة فى 3 محافظات: رواتبنا لا تكفى.. والمتورطون يسترون فضائح «جرائم الشرف»
التقى «الدستور» ٣ مفتشين بمكاتب الصحة فى ٣ محافظات مختلفة: «القاهرة، الجيزة، القليوبية» للتعرف على طبيعة عملهم، والدافع الحقيقى وراء تورط بعضهم فى جرائم «تزوير» تصاريح الدفن، فوجدنا أن بعضهم يلجأ لذلك مقابل رشاوى مالية لتحسين دخله، وبعضهم يزوّر التصاريح على سبيل المجاملة، للحفاظ على العادات والتقاليد أو بحكم «الجيرة» فى القرى الريفية، وأخيرًا للتستر على فضيحة ما قد تودى بسمعة أسرة من الأسر.
البداية عند الدكتور حمدى محمود، ٤٠ عامًا، مفتش صحة بحى الهرم التابع لمحافظة الجيزة، يعمل منذ ١٧ عامًا، الذى وصف أوضاع مفتشى الصحة بأنها «سيئة للغاية»، مؤكدًا أنه يعمل ٢٤ ساعة بسبب الحالات الطارئة، ورغم ذلك لا يتناسب مجهوده المضنى مع ما يتقاضاه من أجر لا يتجاوز ١٥٠٠ جنيه.
وعن طبيعة عمله، يقول محمود: «كل مكتب صحة به مفتش يختص بالكشف الظاهرى على المتوفين، واستخراج تصاريح الدفن، ويعتبر بمثابة مدير للمكتب الذى يضم طاقم تمريض للتطعيمات، وكاتب مواليد ووفيات، يسجل بيانات المواليد والوفيات على قاعدة بيانات المواطنين بالوزارة، بالإضافة إلى مراقب صحى غذائى».
وعن كيفية فحص جثامين المتوفين لاستخراج تصاريح الدفن وآلية كتابة التقرير النهائى، يقول المفتش: «هناك ٣ حالات يتم التعامل معها للوفيات، الأولى إذا كانت الوفاة بالمنزل، والمبلغ عن الوفاة أحد الأقارب من الدرجة الأولى أو الثانية، فيتم انتداب مفتش الصحة فى المنطقة، لتوقيع الكشف الطبى الظاهرى عليه، وفى حال عدم وجود أى علامات تدل على أن الوفاة جنائية، يستخرج المفتش تصريح الدفن، أما إذا شك فى أن الوفاة ناتجة عن حادث جنائى، يحال الأمر إلى النيابة العامة والطب الشرعى فورًا».
وأضاف مفتش الصحة لـ«الدستور»: «أما الحالة الثانية، فإذا كانت الوفاة بأحد المستشفيات، فلا يتم انتداب مفتش الصحة، لكن أهالى المتوفى يأتون إلى المفتش ومعهم ورقة تسمى (تبليغ بحالة الوفاة) تحتوى على تشخيص طبيب المستشفى، ويستخرج التصريح بناء عليه ويكون الطبيب هو المسئول».
الحالة الأخيرة تكون ناتجة عن الحوادث، ويتم فيها تحرير محضر وانتداب الشرطة والنيابة العامة، ويتولون التحقيق، فيما يتولى الطب الشرعى الكشف الطبى على الجثة، حسب محمود.
وعن سُبل رقابة وزارة الصحة على مكاتب الصحة، يقول إن مفتشى الصحة يتبعون قطاع الطب الوقائى بالوزارة، ويخضعون لرقابة الإدارة الصحية، ومديرية الصحة والوزارة والمحافظة ورئاسة الحى والرقابة الإدارية والنيابة الإدارية.
وأشار مفتش الصحة إلى أن هناك أكثر من ٤٠٠٠ مكتب صحة موزعة على مستوى الجمهورية حسب الكثافة السكانية، ويوجد فى كل مكتب مفتش واحد، وهو عدد غير كافٍ، مضيفًا: «فى كل محافظة تعمل مكاتب الصحة كلها حتى الخامسة مساءً، ماعدا مكتبًا واحدًا يعمل لمدة ٢٤ ساعة تحسبًا للحالات الطارئة».
وعن اتهام وتورط بعض المفتشين فى قضايا تزوير تصاريح الدفن، يقول محمود: «كنت شاهدًا على العديد من القضايا التى تورط بها زملائى، التى وقعت تحديدًا فى محافظتى بنى سويف وأسيوط، الأولى كانت تخص حربًا ثأرية بين عائلتين فى مركز الفشن ببنى سويف، قتل أحد أبناء عائلة معروفة هناك شابًا من عائلة أخرى، وعمدت عائلة القتيل إلى تزوير سبب الوفاة من صيغة الجنائى والقتل إلى صفة الوفاة الطبيعية حتى تستطيع الأخذ بالثأر لفقيدها».
وأضاف «محمود»: «الواقعة الثانية كانت تخص سيدة، قتلها أولادها وأحفادها من أجل الميراث، ودفنوها، إلا أن شقيقتها شكت فى الوفاة وأبلغت الشرطة، فتم استخراج الجثة من جديد وتوصلت التحريات إلى إثبات أن الوفاة جنائية».
أما الدكتورة ندى السيد، مفتشة صحة فى حى السيدة زينب أول التابع لمحافظة القاهرة، فقالت إن بعض مفتشى الصحة يتكاسلون عن توقيع الكشف الطبى، والبعض الآخر يعمد إلى تزوير سبب الوفاة مقابل رشاوى.
مفتشة الصحة أشارت إلى أنها شهدت واقعة حدثت مع سيدة كان مؤمنًا عليها ببوليصة تأمين تبلغ ١٨ مليون جنيه، وتدفع شهريًا ٢٠٠ ألف جنيه لشركة التأمين، إلا أن أبناءها أرادوا الحصول على أموالها لدى شركة التأمين، فاستخرجوا لها تصريحًا وشهادة دفن وهميين من مفتش بمكتب صحة بمحافظة بنى سويف، وحصلوا بالفعل على أموال التأمين.
وعن أوضاع المفتشين والأطباء بمكاتب الصحة تقول إنها «متردية للغاية»، وهو ما يدفع بعضهم للجوء إلى الطرق غير المشروعة لكسب الأموال، ما يؤدى إلى حدوث جرائم قتل يُدفن أصحابها دون أن يسمع عنها أحد أو يحاسب الجناة، مشيرة إلى أن مفتشى الصحة يحتاجون إلى زيادة فى رواتبهم من قبل وزارة الصحة.
من جهته، يقول نصر على، مفتش صحة بمكتب شبرا الخيمة التابع لمحافظة القليوبية، ويعمل فى تلك المهنة منذ ١٥ عامًا: كنت شاهدًا على واقعة تخص «جريمة شرف» اعتدى فيها رجل جنسيًا على فتاة ربطتهما علاقة قرابة «أبناء عمومة»، فاضطر شقيق الفتاة لقتلها، واستخرج تصريح دفن مزيفًا لها بالتنسيق مع أحد مفتشى الصحة، ليحمى سمعة العائلة من الفضيحة.
وعبّر «نصر» عن استيائه من رواتب الأطباء بشكل عام ومفتشى الصحة بشكل خاص، مشيرًا إلى أن رواتب المفتشين ضعيفة، فى حين أنهم معرضون للعدوى من الحالات التى يكشفون عليها بعد الوفاة، ورغم ذلك يأخذون بدل عدوى ٣٠ جنيهًا فقط.
الرقابة الإدارية: مشروع جديد لإصلاح المنظومة
مصلحة الطب الشرعى التابعة لوزارة العدل، هى إحدى الجهات المسئولة عن استخراج تصاريح دفن الموتى، فى حالة احتياج الجثة إلى تشريح من الطب الشرعى بأمر من النيابة العامة.
يقول الدكتور أحمد عبدالرءوف، طبيب شرعى مختص بـ«الجثث المجهولة» فى مصلحة الطب الشرعى: «يَرِد إلى قطاع الجثث المجهولة سنويًا نحو ١٠٠ جثة تم تزوير تصريح الدفن الخاص بها، ودفنت على أن وفاتها طبيعية رغم أنها جنائية، وبها شبهات قتل».
ويضيف «عبدالرءوف» لـ«الدستور»: «البداية تكون عند النيابة العامة، حين يأتى إليها بلاغ يفيد بدفن جثة بها شبهة جنائية، وخروج تصريح الدفن الخاص بها بشكل زائف، ويدعى أن الوفاة طبيعية»، مشيرًا إلى أن النيابة تأمر باستخراج الجثة وترسلها إلى الطب الشرعى ليتم توقيع الكشف الطبى عليها وتشريحها إن لزم الأمر، وإثبات جنائية الوفاة، عكس ما كُتب فى تصاريح الدفن.
وتابع الطبيب الشرعى: «معظم الجثث التى وردت إلى الطب الشرعى بتصاريح دفن مزورة، يكون السبب فيها الخلافات العائلية أو التستر على فضيحة»، لافتًا إلى أن ذلك النوع من التزوير منتشر بكثرة فى الأقاليم والمحافظات لا سيما فى الصعيد، بسبب بعض العادات الموروثة للعائلات من قبيل الخوف من العار أو الفضيحة، فهم يقتلون الفتيات المخطئات ويدفنوهن بتصاريح مزورة على أن الوفاة طبيعية، وأحيانًا يكون سبب القتل خلافات على ورث، وحالات قليلة تكون فيها عملية القتل والدفن انتقامية.
ووفقًا لمسئول الجثث المجهولة بالطب الشرعى، فإن تلك الجرائم يتم معظمها عن طريق الخنق أو السم أو الطعن، ورغم أنها جرائم يسهل اكتشافها ظاهريًا من قبل مفتش الصحة، بسبب وجود علامات كثيرة لها على جسد المجنى عليه، إلا أن الطبيب يوقع كشفًا طبيًا وهميًا أو يزوّر سبب الوفاة مقابل الرشوة.
وقال مصدر مسئول فى الرقابة الإدارية، طلب عدم نشر اسمه، إن بعض مفتشى الصحة يتلقون رشاوى مقابل تزوير سبب الوفاة، موضحًا أن تلك الوقائع أغلبها يتم فى المحافظات، بسبب العادات والتقاليد مثل الثأر والخلافات العائلية.
وأضاف: «يزوّر مفتش الصحة سبب الوفاة كنوع من الواجب تجاه أبناء بلدته»، لافتًا إلى أن الوفيات التى تتخطى الـ٦٠ عامًا، لا يشك المفتش فى كونها وفاة لأسباب جنائية، وبالتالى يتكاسل عن توقيع الكشف الطبى القانونى عليها.
المصدر ذاته كشف عن واقعة شهيرة، كان يحقق فيها كمسئول فى الرقابة الإدارية قائلًا: «منذ عدة سنوات، أمر مدير إدارة الشئون الصحية بالقاهرة، بنقل موظف بمكتب صحة فى القاهرة يدعى (محمود.ش) إلى مكتب صحة آخر بالجيزة، فاستخرج الأخير شهادة وفاة وتصريح دفن لمدير الإدارة انتقامًا منه وظل يهدده لأيام بها، ما يدل على أن منظومة استخراج تصاريح الدفن تعانى خللا كبيرا».
وأشار إلى مشروع جديد تعكف الرقابة الإدارية على إنجازه خلال الفترة المقبلة، وهو عبارة عن ربط كل ما يخص أوراق القيد بما فيها استخراج تصاريح الدفن بالرقم القومى، ووضع نظام ميكنة لربط قواعد بيانات المواطنين بعضها ببعض.
من جانبه، يقول الدكتور صلاح فوزى، رئيس قسم القانون العام بكلية الحقوق جامعة المنصورة: «لا يوجد نص قانونى صريح فى القانون المصرى حول تزوير تصاريح الدفن، فعقوبته تكون نفس عقوبة جريمة التزوير».
وأضاف فوزى أن جريمة التزوير تحكمها المادة ٢٠٦ فى قانون العقوبات، إذ تنص على أنه «يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن كل من قلد أو زوّر كلًا من: محررات ورقية، إمضاءات شخصية، أمر جمهورى أو قانون أو مرسوم أو قرار صادر من الحكومة، خاتم الدولة، أو إمضاء رئيس الجمهورية أو ختمه، وكذلك ختم أو دمغة مصلحة حكومية أو أوراق مرتبات الموظفين».
كبير الأطباء الشرعيين الأسبق: الأعداد وراء الأزمة.. والكشف لا يتم إلا على المتوفى قبل سن الأربعين
بحكم عمله فى مجال الطب الشرعى على مدار ٤٠ عامًا، صادف الدكتور أيمن فودة، كبير الأطباء الشرعيين الأسبق، نحو ٧٠ جثة وردت من النيابة العامة إلى قطاع الطب الشرعى يشتبه فيها أن الوفاة «جنائية» وليست طبيعية مثلما أفاد تصريح الدفن، وكانت بعض الجثث دفنت بالفعل وتم استخراجها بمعرفة النيابة، لإعادة الكشف عليها وتشريحها، وبعضها تم استخراجه بناءً على طلب من ذويها.
يؤكد «فودة» أن معظم الوقائع التى مرت على الطب الشرعى فى عهده خصت «زواج القاصرات»، مشيرًا إلى أن محافظات الصعيد والأرياف يحدث بها زواج الفتيات وهن فى سن صغيرة، لذا يتعرضن للموت المبكر ويتم دفنهن بتصاريح مزورة بعلم الأهل، خوفًا من المساءلة القانونية، لافتًا إلى أن بعض الوقائع تخص قضايا التنازع على المواريث وجرائم الشرف، و«يخرج التصريح المزيف مقابل رشوة لا تزيد على ١٠٠ جنيه»، حسب قوله.
الطبيب الشرعى الأسبق أوضح أن الشرطة والنيابة العامة هما الجهتان المسئولتان فقط عن استدعاء الطب الشرعى، ويتم جمع التقرير النهائى فى محضر يسمى «جمع الاستدلال» ويعرض على النيابة العامة، وإذ ثبت «تزوير» سبب الوفاة يحول مفتش الصحة إلى محكمة الجنايات بتهمة «التزوير».
وأضاف فودة: «الكثير من المفتشين يتكاسلون عن توقيع الكشف الطبى لأن هناك قرابة ٢٠ ألف حالة وفاة يومية فى مصر» مشيرًا إلى أن البعض يتبع ما يعرف باسم «سن الاشتباه»، بمعنى أن يوقع الكشف الطبى فقط على الوفيات من سن ٥ سنوات حتى ٤٠ عامًا، بدعوى صغر السن ووجود شك فى أن الوفاة جنائية، وما دون ذلك تكون الشكوك فيها قليلة.
وقال إن حل تلك الأزمة يكمن فى زيادة عدد مفتشى الصحة، واتباع أساليب الدول الأوروبية فى وجود طبيب بوليس وآخر صحة وثالث طبيب أسرة لتوزيع المهام.
أما حسن العريف، أقدم «حانوتى» فى منطقة السيدة زينب، فقال: «أنا شاهد عيان على الكثير من وقائع تزوير تصاريح الدفن، فمفتشو الصحة يدلسون أسباب الوفاة مقابل رشاوى مادية أو معنوية، بمعنى خدمة مقابل خدمة».
ومن أسباب انتشار جرائم تزوير تصاريح الدفن، وفقًا لـ«العريف»، عمل بعض المكاتب ٢٤ ساعة، بعدما كان عملها ينتهى فى الخامسة عصرًا، معتبرًا الفترة المسائية هى الأكثر فسادًا، ما يدفع الأطباء والمفتشين المرتشين لطلب العمل فى الفترة المسائية إضافة إلى عملهم الصباحى.
وأضاف حسن: «الفساد فى مكاتب الصحة يكون تحديدًا بالمحافظات والمناطق الريفية، ووصل الفساد إلى درجة أن البعض يدفن الموتى ثم يستخرج تصريح الدفن بعدها، ليتمكن بعد ذلك من استخراج شهادة الوفاة، وخلال فترة عملى كان بعض الأهالى فى بنى سويف يستخرجون التصاريح بعد دفن المتوفى».
وعن وقائع تزوير تصاريح الدفن التى كان شاهدًا عليها، يقول العريف: «صادفتنى واقعة تخص عاملا فى إحدى الشركات الخاصة، وكان توفى بسكتة قلبية أثناء أداء وظيفته، إلا أن صاحب الشركة زيف تصريح دفنه بأن سبب الوفاة هبوط فى الدورة الدموية أثناء وجوده فى منزله حتى لا يعطى ذويه التعويض والمعاش القانونى».
وروى واقعة أخرى حدثت منذ ١٠ سنوات، لسيدة فى محافظة سوهاج صدر لها تصريح دفن بأن الوفاة طبيعية، ورغم ذلك شكت السيدة القائمة على تغسيلها، فى أسباب الوفاة، بعدما رأت علامات حمراء على جبهتها، وتبين من خلال التحقيقات أنها دماء متجلطة وأن السيدة ضربت بآلة حادة.
وأكد العريف أن حصول مفتشى الصحة على رشاوى مقابل التزوير يعود إلى ضعف رواتبهم، إلى جانب عدم حصولهم على بدل انتقال بين المنازل لتوقيع الكشف الطبى على المتوفى، ما يدفعهم فى أحيان كثيرة إلى التكاسل والاعتماد على رواية الأهل بأن «الوفاة طبيعية».
وأشار إلى أن تجاهل الكثير من الأطباء فى مكاتب الصحة قانون الأحكام الشرعية والصحية لأداء مهنة «الحانوتية» رقم ٥ لسنة ١٩٩٦ كان سببًا أساسيًا فى تحويل بعض مفتشى الصحة إلى «مافيا للتزوير» مضيفًا: «المادة الرابعة من القانون تنص على أن مفتش الصحة لا يعطى تصريح الدفن للأهل إلا بعد تسلم ورقة تسمى (بلاغ الحانوتى) مكتوب فيها تشخيصه لسبب الوفاة، ومن ثم يقوم الطبيب بالتشخيص النهائى ويستخرج تصريح الدفن».
وتابع: «القانون جعل كلًا من الحانوتى ومفتش الصحة مسئولين عن التصريح، فإذا قبل أحدهما الرشوة فسيكشفه الآخر، إلا أن تجاهل مفتشى الصحة ذلك البلاغ، رغم نص القانون على أنه من المحررات الرسمية، فتح بابًا للفساد والتزوير، بعدما أصبح مفتش الصحة المسئول الوحيد عن تصريح الدفن وتحديد سبب الوفاة».
وتنص المادة ٢٥ من القانون رقم ٥ لسنة ١٩٦٦ فى شأن الجبانات (المقابر) والحانوتية، على أنه: «لا يجوز دفن جثة بغير إذن من طبيب المدينة المرخص له بالطب (أى مفتش صحة)، وإذا وجدت علامات ظاهرة تدل على أن الوفاة جنائية أو ظروف أخرى تدعو للاشتباه، فعلى المغسل أو الحانوتى لفت نظر مفتش الصحة حتى يكون على حذر فى البلاغ الذى يقدمه له ويعتبر من المحررات الرسمية»
«الأطباء» تتبرأ: لا ينتمون للنقابة ويوجد عجز فى عدد المفتشين.. و«الصحة» ترفض التعليق
قال الدكتور إيهاب طاهر، أمين عام نقابة الأطباء، إن مفتشى الصحة خريجو المعاهد الفنية الصحية، وليس كليات الطب بالجامعات، موضحًا أن معظمهم ليسوا أعضاءً بنقابة الأطباء، وبالتالى ليس للنقابة أى رقابة أو سلطة عليهم.
وأكد طاهر لـ«الدستور» أن عدد مفتشى الصحة قليل جدًا، ما يجعل الطبيب الواحد غير قادر على توقيع الكشوفات الطبية على كل الوفيات التى تحدث فى المنطقة التابع لها، لا سيما أن كان التوزيع الجغرافى والعدد كبيرين.
وأوضح أن معظم الضبطيات والإحالات للنيابة التى تحدث لمفتشى الصحة تخرج من الوزارة نفسها، لافتًا إلى أن لجنة آداب المهنة بالنقابة خاصة فقط بالأطباء المنضمين لها ويحملون عضوية النقابة، وبالتالى ليس لها علاقة أو رقابة على مفتشى الصحة.
من جهة أخرى، حاولت «معدة التحقيق» على مدار ثلاثة أسابيع، مواجهة وزارة الصحة أو قطاع الطب الوقائى التابع لها بكل ما تم توثيقه من رشاوى وإهمال وفساد فى منظومة استخراج تصاريح الدفن بمكاتب الصحة، ممثلة فى: وكيل وزارة الصحة بمحافظة الجيزة ومسئول الطب الوقائى بها، ورئيس قطاع الطب الوقائى، وفى كل مرة يكون الرد هو تأجيل موعد الرد على ما توصل له التحقيق، كما تم إرسال جواب رسمى لوزارة الصحة، دون جدوى.
ووفقًا لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم ٤٢٤٨ لسنة ١٩٩٨، الذى نُشر بالجريدة الرسمية، بشأن تيسير الحصول على الخدمات الجماهيرية ومنها خدمة استخراج تصريح بالدفن من وزارة الصحة والإسكان، تلتزم الجهات الإدارية المعنية (مكاتب الصحة) بتوفير الخدمة وتكون مسئولة عنها.
وحدد القرار المستندات والأوراق والمبالغ المطلوبة، لاستخراج تصاريح الدفن من مكاتب الصحة وهى: «نموذج تبليغ عن وفاة يصدر من وزارة الداخلية، الرقم القومى للمتوفى، بطاقة الرقم القومى للمبلغ، الكشف الطبى الذى يفيد بثبوت واقعة الوفاة».
وألزم القرار جهة الإدارة (مكاتب الصحة) باستخراج تصريح الدفن فور التبليغ عن واقعة الوفاة فى حالة الوفاة الطبيعية، ويتم انتداب مفتش الصحة من المكتب التابع له منطقة المتوفى لتوقيع الكشف الطبى والاطلاع على الأوراق السالف ذكرها واستخراج تصريح الدفن.
وتنص المادة ٤ من قانون الأحوال المدنية رقم ١٤٣ الصادر سنة ١٩٩٤، على أنه: «تختص مكاتب الصحة بتلقى إخطارات التبليغ عن وقائع الميلاد والوفاة التى تحدث داخل جمهورية مصر العربية، للمواطنين والأجانب المقيمين، وإصدار تصريح بالدفن فى حالة الوفاة».
كما تنص المادة رقم ٣٨ من القانون ذاته على أنه: «يجب على مكاتب الصحة والجهات الصحية إصدار التصريح بالدفن فور تلقى التبليغ عن واقعة الوفاة مرفقًا به الكشف الطبى الصادر من مفتش الصحة، أو الطبيب المكلف بإثبات الوفاة والذى يفيد بثبوت واقعة الوفاة، لإثبات إذا كانت طبيعية أو جنائية».