رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد عبدالقادر يكتب: سقوط هيبة الولى الفقيه


ربما تكون موجة الربيع الفارسى قد هدأت قليلًا أو أخمدت، تحت وطأة آلة القمع الرهيبة، التى حالت دون سقوط النظام، لكن هذه الآلة القمعية المؤلفة من أكثر من مليونى جندى فى قوات الحرس الثورى والباسيج والجيش لم تحل دون سقوط هيبة الولى الفقيه فى أعين الملايين.. بعد إحراق وإسقاط صوره فى عشرات المدن الإيرانية وسط مظاهر الترحيب والابتهاج وصيحات «الموت لخامنئى.. الموت للديكتاتور».

وحتى لو احتفظ النظام بتماسكه فلن يستطيع المؤيدون أو المعارضون أن ينسوا أبدًا، ما حدث لوليهم الفقيه، الذى كان قبل هذه الأحداث ذاتًا عليًا لا تمس، فإذا به يسقط من عليائه مهانًا تُضرب صوره بالحذاء وتُداس بالأقدام.
ومن الصعب على أى متابع لأحداث إيران أن يدرك هذا المعنى، إذا لم يكن على علم بماهية «الولى الفقيه» وسلطاته ومكانته.. ويكفى أن نذكر ما قاله قائد ميليشيا الباسيج العميد غلام حسين غيب برور، «إنه لا فرق بين قتلة الحسين ومن خرج على خط الولى الفقيه، وأن المرشد الأعلى الإيرانى، على خامنئى، هو تجسيد للإسلام الخالص، وأنه ترجمة فعلية له».
أما نائب ممثل المرشد الأعلى الإيرانى فى الحرس الثورى، عبدالله حاجى صادقى، فقد قال «إن عصيان أوامر الولى الفقيه هو شرك بالله.. وإن عصيان أوامر الولى الفقيه يعتبر عصيان الإمام المهدى».
ويزعم إمام جمعة طهران، كاظم صديقى، أن على خامنئى هو حجة الله على الأرض بالنيابة عن الإمام المهدى، الذى يعتقد الشيعة أنه على قيد الحياة، وأنه قد غاب عن الأنظار منذ عام ٢٦٠ الهجرى، زاعمًا أن الإمام الثانى عشر للشيعة أوصى باتباع وطاعة أوامر الولى الفقيه قائلًا «إن الولى الفقيه هو حجتى عليكم».
ووفقًا للدستور الإيرانى، الذى وضعه آية الله الخمينى، فإن المرشد الأعلى هو نائب الإمام المهدى، فتنص المادة الخامسة على أنه «فى زمن غيبة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة فى جمهورية إيران الإسلامية، بيد الفقيه العالى المتقّى، البصير بأمور العصر، الشجاع، القادر على الإدارة والتدبير». (المادة ٥٧ ).
ويقال إن الخلاف بين مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله على خامنئى، ورئيس الجمهورية السابق محمود أحمدى نجاد، وهو من المؤيدين للاحتجاجات الحالية، كانت تتمحور حول قضايا عقائدية تمس جوهر النظام، فمستشار نجاد ووالد زوج ابنته رحيم مشائى يحمل مشروعًا فكريًا وسياسيًا، يقوم على أن ظهور الإمام المهدى، قد أصبح قريبًا وأن مشائى يتواصل معه مباشرة، وهو ما سيؤدى إلى إلغاء دور مرشد الجمهورية الإيرانية.
هو إذن ظل الله فى الأرض، حسب عقيدتهم، ونائب المهدى المنتظر، حسب دستورهم، وطاعته من طاعة الله، والخروج عليه لايقل إثمًا عن جريمة قتل الإمام الحسين الشنعاء كما يقول شيوخهم، لذلك لم يجرؤ أحد على الخروج عليه على مدى ٣٨ سنة، منذ نجاح الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩.
لهذا كانت الصدمة الكبرى لكثير من المتابعين، عندما قام المتظاهرون فى عدة مدن بالهتاف ضد الولى الفقيه، ووصفه بالديكتاتور وحرق صوره أو إسقاطها، ولا يمكن تفسير ذلك بأى حال من الأحوال سوى بسقوط هيبة واعتبار الولى الفقيه فى عيونهم، وبالكفر التام لهؤلاء المحتجين بهذا النظام، الذين تحمسوا له منذ ٣٨ عامًا، اعتقادًا منهم بأنه سيخلصهم من الفقر الذى عاشوه فى ظل حكم الشاه، لكنهم اكتشفوا أن نظام الولى الفقيه قد زادهم فقرًا، لأنه ينفق المليارات بسخاء من أموالهم على سوريا ولبنان واليمن، ويتركهم يعانون من البطالة، التى وصلت إلى ٤٠ بالمائة، ومن الفقر، ويترك القرى التى دمرها زلزال كرمنشاه الأخير على حالها البائس، فى الوقت الذى أعلن فيه أن الميزانية الأخيرة للدولة، زادت مخصصات المؤسسة العسكرية إلى ١١ مليار دولار، أى بزيادة قدرها ٢٠ بالمائة تقريبًا.
لقد كان الإيرانيون يعتقدون أن أحوالهم ستتحسن، بعد رفع العقوبات عنهم، وهو إجراء كان يعنى استعادة بلادهم لأكثر من مائة مليار دولار، كانت مجمدة فى الخارج، لكنهم فوجئوا بأن هذه المليارات ذهبت وقودًا لتحقيق أحلام مرشدهم الأعلى لبناء إمبراطوريته، فأنفقها فى خارج الحدود، وترك شعبه يعانى الأمرين.
وإذا كان البعض يرفض مقارنة احتجاجات الحركة الخضراء، التى وقعت فى إيران فى العام ٢٠٠٩، بموجة التظاهرات الأخيرة، إلا أن هناك من يرى أن الحركة الخضراء أسهمت بشكل كبير فى كشف الفساد المسكوت عنه فى دولة الولى الفقيه، وأبرزه أن هناك خمسة أشقاء من عائلة واحدة هى عائلة لاريجانى، يتحكمون فى مفاصل الدولة، فعلى لاريجانى، الابن الأكبر فى هذه العائلة، هو الأقرب للمرشد الأعلى، وهو رئيس مجلس الشورى حاليًا، ومرشح رئاسى سابق فى وجه أحمدى نجاد، وشقيقه الآخر آية الله صادق لاريجانى، هو رئيس السلطة القضائية، أما محمد جواد لاريجانى، فهو أمين عام لجنة حقوق الإنسان، وباقر لاريجانى الذى شغل منصب نائب وزير الصحة. وعمل فاضل لاريجانى فى السلك الدبلوماسى الإيرانى، وكان سفير إيران إلى كندا.

ويقال إن الحركة الخضراء أيضًا كانت بمثابة أول صراع معلن بين جناحى النظام، أو بين المحافظين والإصلاحيين، وقد قالت جريدة «نيويورك تايمز» إن الرئيس الحالى حسن روحانى، والمحسوب على الإصلاحيين، هو من تعمد تسريب أرقام الميزانية التى أحدثت الصدمة فى الشارع الإيرانى، فقد اكتشف الإيرانيون أن الميزانية الجديدة، قد خصصت عشرات المليارات للمنظمات المتشددة، والجيش، وقوات الحرس الثورى، والمؤسسات الدينية، ولكنها اقترحت إنهاء الإعانات المالية لملايين المواطنين، وزيادة أسعار الوقود وخصخصة المدارس الحكومية.
هى إذن موجة ثورية لم تولد من فراغ، بل بنيت على أسباب موضوعية تراكمت على مدى ٣٨ سنة، منذ إعلان قيام دولة الولى الفقيه، وأهم هذه العوامل هو الفقر المتزايد بين عامة الشعب فى الوقت الذى تهدر فيه المليارات على دول أخرى لإرضاء طموحات المرشد والجناح المتشدد، والفساد الذى بات جليًا للعيان، والذى يتناقض مع أى شعارات دينية قد تتردد هنا أو هناك.

وهى الموجة الثورية الثانية خلال ثمانى سنوات، ولكنها الأكثر قوة والأكثر جرأة، لأنها أول صرخة تزلزل النظام، وتكسر هيبة الولى الفقيه.. وحتى لو خفتت أو أخمدت – وهذا أمر يصعب الجزم به حتى الآن- فإنه من المؤكد أن إيران لن تعود كما كانت، وإما أن يلجأ النظام إلى تغيير حقيقى، أو أن يفرض عليه التغيير بقوة أكبر فى موجة ثالثة قد لا تبقى ولا تذر.