رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسالة من طالب جامعى إلى وزير الجامعات


تخيلتنى وأنا فى مقاعد مدرجات الجامعة، كطالب مسكين وافد من الأقاليم، والزمن تحديدًا هو زمن ولاية الدكتور هانى هلال، وزير التعليم العالى، قبل أحداث ثورة يناير بشهور، ومع مطلع عام جامعى جديد (٢٠١١٢٠١٢)، ولأن لدى علامات استفهام لا حصر لها، رأيتنى أكتب لمعالى وزير الجامعات المصرية خطابى التالى آنئذ، وبمناسبة تدشين موقع إلكترونى رائع مثل «كشكول» ــ وأرى فكرة إنشاء مواقع إلكترونية متخصصة افتكاسة طيبة، لتتكامل فى خدماتها مع خدمات مواقع الوزارات التى تحتاج المزيد من الجهودــ وجدتنى أفكر فى إعادة نشر الرسالة موجهة للوزير الحالى، مع ملاحظة حدوث بعض المتغيرات قد ترونها إلى الأفضل أو الأسوأ.
معالى وزير التعليم العالى.. أنا الطالب فلان أنتسب أحيانًا إلى الطبقة المتوسطة، ومرات يصفون عائلها بأنه محدود الدخل، وفى دعابة مريرة يصفوننا بأننا من «داسهم القطار».
فى البداية يعز علىّ كثيرًا- وأنا أحد رعايا وزارتكم- أن أقرأ فى صحيفة خاصة معارضة لكاتب كبير مقالًا يستهله قائلًا: «لو كنت مكان وزير التعليم العالى هانى هلال لأشعلت النار فى نفسى فى ميدان التحرير على الطريقة البوذية، فالنيران التى ستحرق جسده ستطهره من أكبر ذنب يرتكبه، وهو ترك الجامعات الحكومية المسئول عنها تؤجر سمعتها وكرامتها وكيانها وقاعاتها مفروشة لمن يدفع أكثر».. لقد أوجعنى وهزنى من الأعماق معالى الوزير، استبدال عبارات التهانى بعام جامعى جديد إلى مناشدة وزيرنا الانتحار حرقًا وسط القاهرة من جانب كاتب موتور، وأسأل: هل لكاتب كبير أن يغالط ضميره؟.. ألا يرى ما فى جامعاتنا من إنجازات تُعد شواهد عملاقة على فكر القائمين عليها؟! وأنا وأبناء جيلى خير شهود بما تحصلنا عليه من علم وفير وخبرات تخصصية متنوعة المرجعيات والمدارس العلمية والفكرية، وعلى من يتشدقون فى جامعات العالم بما يسمونه الجودة، فليشرفونا ليروا معايير جامعاتنا الرائدة فى اختيار المعيدين ونظم الترقية وكيف يختار العمداء. إننا أيها الكاتب الحقود منظومة إدارية عبقرية تشهد بها ساحات القضاء وصفحات الحوادث وملفات الشئون القانونية، فلماذا إذن يتحدثون عن سرقات الأبحاث والمدعوة الملكية الفكرية، وينسون أننا فى جامعاتنا نعتمد فكرًا مفتوحًا يسمح بانتقال الأفكار وتداولها؟ ولماذا لا نرى مؤلفات الأساتذة، وهى تُستنسخ من عام إلى آخر مع تبديل الأسماء؟.. إن نسبة الأعمال إلى أصحابها إلى الأبد، من شأنها أن تثير الأحقاد والضغينة بين العلماء الباحثين وإخوانهم من أهل الثقة الذين يعيشون على إعادة طباعة وضخ فكرهم بأمانة أحيانًا وبتشويه فى أحيان أخرى.. فماذا عساه كاتبنا أن يقول، وقد ارتضى الجميع العمل وفق تلك الآليات السمحة وبأريحية لذيذة؟!. أعود إلى شخصى الضعيف، فأنا طالب قادم من إحدى قرى الدلتا.. قرر والدى رغم ضيق ذات اليد أن ألتحق بإحدى الجامعات الكبرى.. ويوم سفرى لأول مرة إلى القاهرة اقتربت منى أمى ومعها خيط وإبرة، وطلبت منى أن أضع المبلغ الخاص بمصاريف الجامعة- رغم أنه مبلغ بسيط، لكنه كان يمثل ثروة تنازلت عنها العائلة- فى جيب البنطلون، وبمجرد وضعه صارت تغلقه بحياكة يدوية وتوصينى بألا أفتح جيب البنطلون اليتيم، إلا أمام شباك تسديد المصروفات.
وفى أول أيام الدراسة، وعندما دلفت من باب الكلية، والسؤال عن مكان شئون الطلاب، هالنى ما رأيت من تفاوت اجتماعى صارخ بين من هم فى مثل حالى، وقد انزوينا فى جنبات وردهات الكلية خجلًا وحياءً، رغم أننا نمثل الأغلبية، بينما صارت أعيننا ترقب بشغف وبكل أحاسيس الغربة، أولاد الأكابر أصحاب السيارات الفارهة والسلاسل الذهبية والملابس الحريرية، وقد انفرجت أساريرهم يتبادلون حوارات بلغة غريبة على مسامعنا.. وكان السؤال الذى أثرناه نحن طلاب الأقاليم والعشوائيات: هل سيأتى اليوم الذى ستغادرنا أحاسيس الغربة؟.. ولم نكد نتطارح همومنا ونتشارك شكاوانا حتى علمنا أن هؤلاء أصحاب الوجوه المتوردة التى تنبض بالحياة هم من يبحثون عن أماكن تسديد مصروفات أقسام التدريس بالإنجليزية والأخرى بالفرنسية، وأيضًا البرامج المتميزة الجديدة، ولما سألنا من باب الفضول عن رسوم الدراسة بها زادت أحاسيس غربتنا ومسافات الابتعاد عن شركاء رحلة التعليم فى الكلية لضخامة الأرقام.. ولا أدرى لماذا تذكرت «محجوب عبدالدايم»، بطل «القاهرة ٣٠»، فى رواية الراحل «نجيب محفوظ».. تُرى من منا يمكن أن يصير محجوب عبدالدايم؟.. ومن منا يمكن أن يرفض حلوله؟.. سؤال أوجهه لمعالى الوزير بعيدًا عن الكاتب إياه.