رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافات الخاصة وتفكك الدولة


مصر بحضارتها وعمقها التاريخى وتراثها الإنسانى ونموذجها القدير لن يستطيع أحد تغيير هويتها ولكن لابد من الحفاظ على توحدنا وثقافتنا العامة وهذا لا يسقط ثقافاتنا الخاصة التى كانت وستظل أهم عوامل التوحد المصرى على مدى التاريخ فكان ما كان ودار ما دار وأراد من أراد ولكن ظلت وستظل مصر بإذن الله وإرادة أبنائها هى وطن لكل المصريين.

الدولة هى ذلك الكيان الذى ينشأ ويقوم على منطقة جغرافية محددة تأخذ قيمة رمزية من خلال الانتماء والاعتزاز بهذه الأراضى لأنها تضم مواطنى هذه الدولة الذين تربطهم وتتراكم على مدى التاريخ مكونات تؤكد هذا الكيان وتدعمه وتقويه وتعطيه القدرة على مواجهة الصعاب والأهوال والحروب والتدخلات الخارجية حتى يظل هذا الكيان حراً محافظاً على وحدته حافظاً لتوحده.

وأهم هذه العوامل اللغة والعادات والتقاليد والثقافة العامة التى تتفاعل وتتكامل مع الثقافات الخاصة والتاريخ المشترك والحضارة المشتركة وإن تعددت حقباتها وتنوعت روافدها ومن المعروف أن مصر تلك الدولة التاريخية التى كانت فجر الضمير الإنسانى ومن أهم المكونات التاريخية والحضارية فى العالم، مصر التى كانت دائماً مقبرة الغزاة فهى بالرغم من قدوم ثلاث هجرات جماعية وأكثر من خمسين غزوة حربية استطاعت أن تمصرهم وتصهرهم فى بوتقتها أخذت من اليونانية والرومانية ما أرادت فى إطار التكامل والتواصل الحضارى، مصر استقبلت المسيحية والإسلام فأضفت عليهما الروح المصرية فكانت تلك النكهة المصرية فى إطار التعامل الحياتى فكانت المسيحية المصرية ذات النكهة المصرية التى تختلف عن المسيحية الغربية، حيث كان الصراع بين الكنيسة المصرية والكنيسة الغربية فتمسكت الكنيسة المصرية بنكهتها وطابعها المصرى الأصيل ولذا سميت بالكنيسة المصرية الوطنية.

كانت تلك الروح المصرية معبر الإسلام، ولذا فقد وجدنا الإمام الشافعى يتأثر بوجوده فى حضرة الإسلام المصرى غير ما كان فى العراق، ولذا فالشخصية الحضارية المصرية هى تراكم تلك الحقبات التاريخية الحضارية من يونانية.. رومانية.. قبطية.. إسلامية فكانت الشخصية المصرية التى هى مجموع تلك الحقبات بعدما استوعبتهم وضمتهم ومصرتهم وكان هذا من عوامل وأسباب صمود مصر فى مواجهة كل الصعاب التى قابلتها وتقابلها وهذا يعنى أن كل مصرى يحمل فى جنباته الحضارية مزيجاً من تلك الحقبات الحضارية تزيد هنا أو تقل هناك، ولكنها تظل من عوامل التوحد المصرى، وإن كان بعض الغلاة والمتطرفين هنا وهناك ينغلق كل على حقبته الخاصة ويتمترس وراءها ويهاجر إليها رافضاً باقى الحقبات الشىء الذى يعلى ويصعد من التعامل على أرضية الثقافة الخاصة فهذا بلاشك يؤثر فى الثقافة المصرية العامة والجامعة لكل المصريين.

تلك الثقافة العامة التى تحتضن تلك الثقافات الخاصة ولذا يصبح من الطبيعى أنه عندما تكون الدولة فى حالة تماسك عضوى وتمتلك مشروعاً قومياً عاماً فهنا تكون الثقافة العامة هى سيدة الموقف ويكون التوحد المصرى هو سيد المشهد لأن هناك ما يوحد ويوفق الجميع حول هذه الثقافة العامة وإن كان لا يلغى الثقافات الخاصة ولكن تكون عاملاً مساعداً لهذا التجميع، أما عندما يصيب الوطن عوامل التفكك مثلما نرى الآن من انتشار حاد لحالة الفوضى العارمة وعلى كل المستويات، عندما يتحول المشهد السياسى لهذه الحالة الخطيرة من السيولة السياسية عندما تستشرى حالة الاستقطاب السياسى بين كل القوى السياسية بجميع تياراتها، عندما يغيب التوحد ويضيع التوافق ويسود التفرق ويستحيل الاتفاق، عندما يعلى كل فصيل مصلحته الخاصة سواء كانت حزبية أو ذاتية على مصلحة الوطن والمصلحة العامة.

عندما يسقط القانون ويستبدل بالقوانين الخاصة عندما يغيب العدل وينتهك الدستور ولا نبالى بالأحكام فتهتز سلطة القضاء ويُمس استقلاله. عندما يحل مبدأ القوة وأخذ الحق بالذراع بدلاً من القانون عندما تنحاز السلطة إلى الأهل والعشيرة ويختصر الوطن ومصلحته المواطنين فى مصلحة الجماعة، هنا يتفكك الوطن وينهار المجتمع وتسقط هيبة الدولة فتظهر الثقافات الخاصة وتسود على حساب الثقافة العامة الجامعة التى تتوارى، وهنا تظهر علامات تفكك الوطن فما حقيقة الموقف؟ لاشك أن الورقة القبطية هى ورقة قديمة حديثة تستغل دائماً وأبداً من كل القوى الاستعمارية بجميع أشكالها وعلى مدار التاريخ المصرى فكانت هذه الورقة ولازالت تستغل تكئة للتدخل الأجنبى بحجة حماية الأقليات الدينية ومنذ تأسيس الدولة المصرية المدنية منذ محمد على وبعد سقوط الدولة العثمانية بدأت فكرة المواطنة تتأسس على أرض الواقع دون إعلان المسمى الذى ظهر فيما بعد فى إطار تطور الفكر السياسى العالمى، حتى كانت ثورة 1919 التى أسست لفكرة التوحد المصرى على أرضية سياسية بعيداً عن المفهوم الطائفى.

ثم كان عبدالناصر الذى جاء بمشروعه القومى وبانحيازه للجماهير وإرساء مبدأ العدالة الاجتماعية الذى مهد وأكد مفهوم المواطنة أيضاً وهنا كانت هذه الفترة من أهم الفترات التى تقدمت فيها الثقافة المصرية العامة متجاوزة الثقافات الخاصة ولكن كان السادات الذى لعوامل سياسية كثيرة قد فجر وأسس مناخ طائفى وضع أوزاره على أرض الواقع فلم يعالج بل تفاقم وتجذر حتى جاء الإخوان وبعد اختطاف الثورة والوطن والسير فى طريق الدولة الدينية التى تستعيد إنتاج التمترس وراء الثقافات الخاصة التى ستلغى الثقافة العامة الجامعة لكل المصريين، والأهم أننا فى الأربعين سنة الماضية كانت المشكلة القبطية هى الأعلى والتى تأخذ كثيراً من الجدل والمناقشة.

وكانت هناك مشاكل وثقافات أخرى خاصة لم تكن بنفس الدرجة ومنها النوبة والبدو ولكن ومنذ عشر سنوات، حيث كانت هيبة الدولة آخذة فى التدهور ظهرت وتصاعدت مشكلة النوبة والبدو مع مشكلة الأقباط حتى أصبحنا وبعد حالة الفوضى الآن نعيش إرهاصات تفكك الدولة المصرية التى ظلت موحدة على مدى آلاف السنين فمن الطبيعى عند انهيار الدولة تظهر كل النعرات الطائفية والعرقية والعنصرية والقبائلية والمهنية والعشائرية والجغرافية وعلى كل المستويات، كنوع من الحماية والتحصن خلف هذه التنويعات، حيث إنها تظهر وتعلو فوق السطح كبديل لكل مشترك وعلى كل المستويات، مع العلم بأن الثقافة القبطية الخاصة هى الأقرب إلى الثقافة المصرية العامة من غيرها من الثقافات الخاصة، حيث إنها ثقافة مغلقة داخل الكنائس ولا يتم التعامل بها ومعها من الأقباط على المستوى المجتمعى والحياتى اليومى ولذا يمكن أن نقول إنها ثقافة تراثية وليست حياتية.

مع العلم أنها هى أيضاً جامعة لكل المصريين، حيث إنها تراث مصرى يخص كل المصريين وليس المسيحيين فقط. هذا بخلاف النوبة والبدو، فهذه ثقافات خاصة تدخل فى إطار التعامل اليومى والحياتى ومع ذلك فما نشاهده الآن قد تخطى كل عوامل الأمان المجتمعى، حيث إن السلطة التى هى صمام الأمن للحفاظ على الثقافة العامة هى ذاتها التى تتمترس وراء ثقافة خاصة تتاجر بها من أجل السلطة وشهوتها فالسلطة الإخوانية وأتباعها من تيارات ما يسمى بـ «الإسلام السياسى» لا تعرف غير ثقافتها الإسلامية الخاصة ولا ترى أى ثقافات أخرى غيرها، بل هم لا يؤمنون بفكرة الحقبات الحضارية المصرية من الأساس فهم لا يعرفون غير ثقافتهم التى لا علاقة لها بمصر من قريب أو بعيد ولذا فمن الطبيعى أن يكون طظ فى مصر واللى فى مصر.

من الطبيعى ألا يروا غير المسلمين فلا ثقافة تعنيهم ولا تراث يهمهم ولا مشترك يريدون ولا توحد يبتغون.

فالكل كافر ومرتد وبعيد عن حظيرة الإيمان حتى ما يسمى بالثقافة العامة التى نتحدث عنها ليست بالمعنى العلمى للثقافة ولكن العام هو رؤيتهم الخاصة للإسلام ومن لا يؤمن بها فهو مرفوض فالحضارة الفرعونية والحقبة القبطية والثقافة المصرية كفر وإلحاد ويجب القضاء عليها، وهنا سقط المشترك وزال الجامع وأسقط التوحد فهل هذه مصر وتاريخها وحضارتها وتراثها؟ ولكن نقول بالرغم من كل ما هو يدعو إلى إبعاد الأمل والاستغراق فى اليأس.

■ كاتب سياسى وبرلمانى سابق