رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الكرافت» من رمز للوفاء إلى قيد يجب تحطيمه


لدىّ صديق لا يمتلك رابطة عنق واحدة، ويتخلص فورًا من أى «كرافت» تأتيه كهدية، رغم أنه يحضر العديد من المناسبات، التى يتباهى من يُدعون لحضورها بارتداء ملابسهم الرسمية وحول أعناقهم «الكرافت».

وقد يعبّر هذا الاتجاه لدى صديقى عن ميله الدائم للتمرد ورفضه القيود التى ترمز لها «الكرافت».. ولعل صديقى يعلم أن ارتداء رابطة العنق يعود إلى أيام الرومان، حيث كان الرومان يرتدون أربطة العنق، كجزء أساسى من زيهم رمزًا للانتماء لجماعة معينة، وأيضًا كان هناك من يرتدونها فى «مجلس الشيوخ» بروما، واستخدموا أربطة العنق كوشاح لتدفئة الحلق، وقد كان طولها فى هذه الفترة يصل إلى المتر ونصف المتر.

أما رابطة العنق الحديثة أو الكرافت الإنجليزية «Necktie»، فيرجع تاريخها إلى بدايات القرن الـ16، وبالتحديد فى الفترة بين «1618-1648»، وهى فترة حرب الثلاثين عامًا التى وقعت بين دول شمال ووسط أوروبا.

فقد كان الجنود الكرواتيون الذين يحاربون مع جيش النمسا فى فرنسا يرتدون هذه الرابطة، وكانت عبارة عن «وشاح» ملفوف على العنق وبنفس الطريقة التى تلف بها رابطة العنق اليوم، حيث كانت تعلقها النساء فى أعناق أزواجهن عند التحاقهم بجبهات القتال، كعلامة على الحب والوفاء، وقد كانت الحرب شديدة وعنيفة، لدرجة أن طريقة إعدام الكرواتيين كانت بتعليقهم برابطة العنق التى يرتدونها.

وقد أثار الجنود الكرواتيون اهتمام الباريسيين بتلك الرابطة، وبدأ الملك لويس الرابع عشر بارتداء رابطة العنق فى عام 1646، وشاع بين الرجال والنساء فى البلاط الفرنسى لف قطعة من القماش حول أعناقهم.

وتم إدراجها من ضمن الزى الرسمى للساسة والقادة الكبار فى زمن لويس السادس عشر، وامتد استخدامها ليشمل عامة الشعب، وأطلق عليها الفرنسيون اسم كرافت «Cravate»، فأصل كلمة «كرافات» الفرنسية هى مشتقة من الكلمة «كروات» بعد تحويل حرف الواو إلى فاء.

وبمرو الوقت أصبحت الكرافت رمزًا ثقافيًا من رموز الحضارة الغربية، حتى إنه يتم الاحتفال بيوم رابطة العنق الدولى فى 18 أكتوبر فى مدن مختلفة حول العالم، أهمها مدينة زغرب الكرواتية التى أسست أكاديمية علمية لتطوير الكرافت.

ويتم تشجيع كل ما هو غريب وجديد فى عالم تصميمات الكرافت من تصميم وتنفيذ رابطات عنق عملاقة، إذ قامت فنانة كرواتية بإحاطة مسرح أرينا الرومانى برابطة عنق طولها 808 أمتار، وبلغ ارتفاع عقدة الكرافتة ستة عشر مترًا ونصف المتر.

ويبدو أن اتجاه صديقى لرفض ارتداء الكرافت، يتناسب مع المتغيرات الثقافية التى يمر بها العالم، فمنذ التسعينيات بدأ اتجاه لعدم التقيد بالزى الرسمى وارتداء رابطة العنق، وظهرت دعوات وجماعات فى أوروبا وأمريكا ترفض استخدام الكرافت وتراها رمزًا للقيد، وتزامن ذلك مع ظهور شركات عالمية فى التكنولوجيا مثل أمازون، جوجل، ميكروسوفت، التى شجعت العاملين بها على ارتداء الملابس الكجوال، وأصبح فى الثقافة الغربية ما يعرف بـ«جمعة الكجوال»، وهو اليوم الذى يسمح فيه للموظفين بعدم ارتداء الكرافت، وقد تزايدت هذه الأيام وتنوعت على مدار الأسبوع من شركة لأخرى، وقرر البعض أن يكون ارتداء الكرافت مقصورًا على يوم الإثنين أول أيام أسبوع العمل فى أوروبا، بل إن بعض الشركات لا يسمح فيها بارتداء رابطة العنق، وقد اشتهر بعض الشخصيات السياسية العالمية بعدم ارتداء الكرافت، ومن أشهرهم رئيس الوزراء اليونانى «أليكسيس تسيبيراس»، كما أن المسئولين والموظفين فى إيران لا يرتدون الكرافت بعد قيام الثورة الإيرانية أواخر السبعينيات من القرن الماضى كطريقة للتعبير عن رفضهم النموذج الغربى.

وإذا كان صديقى قد نجا من ارتداء الكرافت فى زفافه بفضل روح زوجته المتفهمة السمحة، فهو الآن يفاوض طفلته الصغيرة كى تسمح له بحضور حفلاتها ومناسباتها الخاصة دون «كرافت».