رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «1-2»


إن من سنن الله- تبارك وتعالى- فى هذا الكون التى لا تتغير ولا تتبدل، سنة الابتلاء فى هذه الحياة. حيث يبتلى الإنسان فى هذه الحياة الدنيا تارة بالخير، وتارة بالشر. قال الله- تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.



تعددت التفاسير كل حسب فهمه وعلمه وتقديره لآيات القرآن الكريم، ومعرفته بالله تعالى وصفاته وأسمائه التى يجريها على خلقه. قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- فى قوله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أى: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى؛ لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط. يفعل الله تعالى ذلك وهو العليم الخبير. كما قال على بن أبى طلحة عن ابن عباس- رضى الله عنه: {وَنَبْلُوكُم} يقول: نبتليكم بالشر والخير فتنة، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال». وهذا الابتلاء سواء بالشر أو الخير، واسع المدى، ولا يعرف الإنسان المخلوق متى ينزل به ذلك الشر أو الخير. «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا». وقوله تعالى «قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه».

وقد يبتلى الله- تبارك وتعالى- الإنسان بشىء ظاهره الشر لكنه فى حقيقته خير كثير، وقد يكون عكس ذلك تماما. والله تعالى يقول «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».

يقول المفسرون والعلماء «عندَما ينزِل البلاء، وتحُلّ المحن، وتدلهم الخطوب، وتعم الرزايا؛ تضطرِب أفهامُ فريقٍ من الناس، وتلتاث عقولهم، وتطيش أحلامهم، فإذا بِهم يذهَلون عن كثيرٍ من الحقّ الذى يعلمون، وينسَون من الصّواب ما لا يجهلون، وهنالك تقَع الحيرة، ويثور الشكّ، وتروج سوقُ الأقاويل، وتهجَر الحقائق والأصول، وتُتَّبع الظّنون، وما تهوى الأنفس، ويُحكَم على الأمور بغير علمٍ، ولا هدى، ولا كتاب منير. وفى معظم تلك الحالات تسود الغفلة، بل ينسى المرءُ أنَّ سنةَ الله فى الابتلاء ماضيةٌ فى خلقه، وأنَّ قضاءه بها نافذ فيهم. وكيفَ ينسى ذلك وهو يَتلو كتاب ربِّه- تبارك وتعالى- بالغداة والعشى، وفيه بيانُ هذه الحقيقة بجلاءٍ لا خفاءَ فيه، ووضوحٍ لا مزيد عليه، حيث قال- سبحانه:{الـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَـٰذِبِينَ}.

وقال الله - عزّ وجلّ: {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِن َالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ}. وقال الله- تبارك وتعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْء مّن َالْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّن َالأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ الصَّـٰبِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ* أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

نعلم يقينا نحن المسلمين أن القرآن الكريم هو كلام الله تبارك وتعالى، وما يقوله القرآن الكريم عن كل شىء وعن المخلوقات البشر، يتجسد واقعا فى حياة الناس، ولا تملك النفس الطيبة إلا أن تقول، صدق الله العظيم، وأما من كفر فلن يقلل ذلك من عظمة القرآن شيئا. ولا بد أن تقف أيها المسلم إجلالا واحتراما لهذا القرآن العظيم، الذى كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم «كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ الْحَارِثِ غَيْرَ أَنَّ الْحُرُوفَ مُقَدَّمٌ، وَمُؤَخَّرٌ».

وهكذا نقرأ فى سورة الأنبياء قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ». يقول بعض المفسرين: هى آية واحدة موجزة، ولكنها جمعت ثلاث حقائق يقينية، يتعين على كل فرد من البشر مواجهتها، وهذه الحقائق الثلاث هى حتمية الموت، وحتمية الابتلاء بالمصائب، ثم حتمية البعث والحشر والحساب والجنة والنار. أى حتمية الرجوع إلى الله، جل وعلا، لمواجهة الحساب على الحرية والمشيئة التى منحها رب العزة للبشر.

قبل الموت هناك حتميات ثلاثة: الميلاد والرزق والابتلاء بالمصائب. وهذا تقدير العزيز العليم، وكل الحتميات التى لا دخل لمخلوق بها لا حساب عليها ولا مساءلة ولا مؤاخذة، كما يقول بعض العلماء «فلن يحاسبك ربك جل وعلا لماذا خلقك غنيا أو فقيرا؟ أو لماذا خلقك وسيما أو طويلا أو أبيض أو أسود؟ أو لماذا كنت ابن فلان وفلانة، أو لماذا صدمتك السيارة، أو لماذا خسرت كل أموالك أو لماذا حلّ بك المرض، أو لماذا حضرتك الوفاة وجاءك الموت؟ لسنا محاسبين على هذه الحتميات، فلا شأن لنا فى حدوثها فينا».

ولكننا جميعا سنحاسب على حريتنا فى التصرف حيال تلك الحتميات في
ما نملك التصرف فيه. وحتى عند الإكراه والاضطرار وعند النسيان والخطأ غير المقصود، وعند عدم التعمد يغفر لنا الغفور الرحيم سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا لا يؤاخذنا إلّا بما نتعمده ونقصده ونفعله باختيارنا الحرّ. «وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ». وباختيارنا الحرّ هذا نتعامل مع الحتميات التى تكتنفنا. ومنها تعاملنا مع الابتلاء بالخير وبالشّر. يرى بعضهم أن ابتلاء الخير أشد من ابتلاء الشر، لأن المصيبة حين تنزل قد تجعل الإنسان يصبر ويقترب من الله متضرعا خائفا مهموما بما حل به من مصيبة أو فتنة، باحثا عن ملجأ يلجأ إليه، وبعض تلك المصائب والفتن لا ملجأ منها إلا إلى الله تعالى. ولكن ابتلاء الخير فى الأغلب يفشل فيه الكثيرون، إذ تصيبهم النعمة بالغرور والبطر وكفران النعمة. وما أجمل أن يصبر الإنسان فى المحن، وهذه من النعم الكبرى، حيث يقول تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب». ومن منا لا يريد أن ينجو يوم الحساب. وللحديث صلة.. وبالله التوفيق.