رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوداع يا كابتن


مساء يوم الأحد الماضى، الثالث من شهر أبريل الحالى، كنت شاهدًا على أن النخوة والبطولة، وتقدير التاريخ والكفاح، واحترام العطاء المُجَرَّد، وتمجيد التفانى فى حب الأوطان، والاستمساك بالقيم العُليا، وغيرها من المبادئ السامية، لم تغادر أرض مصر، ولم تفلح قوى التجريف والظلام فى انتزاعها من الضمير الشعبى، رغم كل الحرب الدنيئة المستمرة من أجل تحقير المصريين، وتصويرهم بأنهم قد تحولوا إلى وحوش ضارية، انفلتت من عقالها، وتحررت من إنسانيتها، وراحت تسحق الأخضر واليابس، وتنزع عن الناس أفضل ما فيها، بفعل «ثورة 25 يناير»، المظلومة فى كل الأحوال!.



فها هو المعدن النفيس للشعب المصرى، يتجلى فى أبهى معانيه، فى مناسبة وداع مواطن مصرى بسيط، لم ينل فى يوم من الأيام مكانة رسمية رفيعة، ولا زيَّنت صدره نياشين التبجيل والتكريم، ولا تمتع بثروة طائلة تجذب إليه الطامعين، ولا كان إعلاميًا مشهورًا يتسابق الجميع على لفت انتباهه!.

لا شىء من هذا كله.. ورغم ذلك فجنازته، التى شارك فيها الآلاف، إلى مستقره الأخير، وعزاؤه الذى تدفقت عليه الجموع من كل حدبٍ وصوب، ومن كل الفئات والأعمار، من أول قائد الجيش الثالث الميدانى، والمحافظ، وكبار ممثلى الدولة وأعضاء البرلمان، حتى الناس العاديين بأزيائهم ولهجاتهم... كانت أمرًا غير مسبوق فى هذه المدينة الباسلة، فكلهم تدفقوا إلى السرادق المقام فى أحد شوارع المدينة، لكى يقولوا بصوت واحد، ملىء بالإكبار والافتخار، والحب والاحترام: «وداعًا يا كابتن»، ... إلى جنة الخُلد والبقاء!.

و«الكابتن» الذى حظى بهذه المكانة الرفيعة التى جذبت إلى عزائه كل هذه الجموع الحاشدة، إلى الحد الذى كان مقرئ القرآن فيه، يتلو البسملة، ثم آية واحدة بالغة القصر من آيات الكتاب الكريم، لا تستغرق إلا بضع ثوان، ويتوقف لبرهة حتى يتيح للبعض الخروج، مفسحين المجال لوافدين جدد- ليس لاعبًا من المشهورين الذين تتصدر صورهم «الجرانين»، ويتقاضون الملايين نظير ركلة لكرة تدخل المرمى، ولكنه كان «كابتن» من نوع آخر. قاد مجموعة من شباب السويس العاديين، لإلحاق هزيمة معنوية كبرى بالعدو الصهيونى، حينما سقطت مصر فى مستنقع النكسة، بعد حرب يونيو 1967، وكان الكثيرون يراهنون على حتمية انكسارها، فالجيش تحطمت أسلحته، والنظام يترنح، والشعب موجوع، وشبح الهزيمة الكاملة معلقٌ فى سماء «المحروسة»!.

عندئذٍ بان المعدن النفيس للمصريين، الذى أشرت إليه فى صدر المقال، حين خرج الملايين يزأرون طالبين من «جمال عبدالناصر»، ألا يتنحى عن موقعه، وألا يترك المركب يغرق فى العباب، وحين اتخذ الشعب، قبل أى طرف آخر، قراره بأن يُعيد بناء قواته المسلحة، وأن يُعـد البلاد للثأر من العدو، وتطهير أرضه من الدنس الإسرائيلى!.

وفى تلك المرحلة العسيرة، تقدمت كوكبة من المحاربين الشجعان المسيرة، بعضهم استشهد كالجنرال الذهبى، الفريق «عبدالنعم رياض»، وإن ظل حيًا فى القلوب والوجدان، وبعضهم استمر يُناضل، مثل «الكابتن غزالى»، الذى ألَّفَ فريقًا من الشباب البسيط: «فرقة أولاد الأرض»، مهمتهم غاية فى السمو والبساطة: أن يغنوا للشعب وللوطن، مستخدمين آلة «السمسمية» التى يعرفها أبناء البحر، وأن يترنموا بكلمات الصمود والمقاومة، وأن يحثوا المصريين على البقاء والمواجهة، وأن يقولوا للمعتدى نحن باقون، وسننتصر!.

غنى الكابتن غزالى وفرقته: «وعضم اخواتنا نلمّه نلمّه، نسنّه نسنّه، ونعمل منّه، بنادق. ونجيب النصر، هدية لمصر»!. وقد كان.. عبرت مصر الهزيمة.. بعد أن ودّعت، ومازالت تودِّع، آلاف الشهداء، فداءً لأرضها الحرة الباقية، ولم ينس الشعب لهم، ولا لـ«الكابتن» موقفهم النبيل أبدا، حتى كانت خاتمة حياته بالأمس القريب!.
الوداع يا كابتن غزالى!.