رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمن الوطنى وملفات ساخنة جدًا


على الرغم من الاختلاف بين الجمهوريات والممالك حول مفهوم «المواطنة» فإنهما عادة ما يتفقان على مفهوم «الوطنية».. فإذا كانت «الوطنية» فى مفهومها «المُعلن» تعنى إيثار المواطن لمصلحة الوطن على حساب مصالحه الشخصية، وأنها قد تمتد لأكثر من ذلك، حين يبدى المواطن استعداده للتضحية بعمره دفاعًا عن وطنه.. فإن لـ«الوطنية» مفهومها «الخفى» الذى يقضى بتغليب مصلحة الحاكم الشخصية ولو كانت على حساب مصلحة الوطن..!

ويتضح ذلك بشكل جلى حينما تختص جهة بعينها بمنح صكوك «الوطنية» للمواطنين، وفق معايير منحازة، ومغايرة تماماً لمنطق التفكير الوطنى.. فعادة ما تختص الجهات الأمنية فى الدول المتقدمة بحماية مصلحة الوطن العليا التى أقرها البرلمان الشعبى. أما فى البلاد المتخلفة فعادة ما تحدد الجهات الأمنية مصلحة الوطن العليا، ثم تُلزِم البرلمان بالعمل فى إطارها..! فإذا كان فى الممالك ليس كل الرعايا مواطنين، فليس فى الجمهوريات كل المواطنين رعايا. وفى كل منهما ليس كل المواطنين «وطنيين»..!

وعموما فقد كان لزامًا علىّ أن أبدأ بهذه المقدمة قبل أن أكتب عن حوارى مع أحد رجال الأمن بالجامعة فى أواخر التسعينيات من القرن الماضى.. حين كنت معيدًا بجامعة القاهرة.. حيث دفعنى شغفى القديم بالأدب إلى تدشين «منتدى ثقافى» بالكلية التى كنت أعمل بها.. وكانت طبيعة المنتدى تسمح للطلاب بأن يتابروا بإبداعاتهم الأدبية، ويتبادلوا وجهات النظر ويتلاقحوا الأفكار بحرية تامة. ولما كنت دائما أميل إلى تشجيع الأعمال الأدبية التى تناقش قضايا اجتماعية حقيقية، فقد كان من الصعب على الطلاب فى تلك المرحلة التفرقة بين القضايا السياسية والاجتماعية؛ نظراً للتماس الشديد بينهما. ومن ثم فعادة ما كانت توجهاتهم السياسية تطفو على السطح، فى معظم إبداعاتهم، وداخل أروقة المنتدى..!

وذات يوم دعانى قائد الحرس الجامعى، وطلب منى استبعاد عدد من الطلاب من المنتدى، وعدم السماح لهم بالمشاركة بأعمالهم الإبداعية أو الحوار؛ بدعوى أن لهم ملفات فى «أمن الدولة» نظراً لنقدهم المستمر لنظام الحكم آنذاك..!

وعلى الفور سألت قائد الحرس حينها: هل تعلم أن أعمار هؤلاء الطلاب لا تتجاوز العشرين عامًا..! هل تعلم أن أن أفكار الإنسان وتوجهاته مرهونة بجملة الأفكار والمعلومات التى تلقاها، والطريقة التى أدركها بها..؟ هل تعلم أن توجهاته ليست ثابتة ولا تتسم بالدوام، خاصة إذا زرعت فى الصبا..؟! وأن هذه التوجهات تتغير كل يوم، وحسب تجارب الإنسان مع الموقف..! وأن سلوك الإنسان مرهون بجملة من القناعات، يمكن استبدالها بقناعات أخرى..؟! هل تعلم يا عزيزى أن ما ينفق على إصلاح جرائم التطرف، وعلى المسجونين، أضعاف ما يُنفق على برامج تنمية الوعى الإنسانى؟!

هل تعلم يا سيدى أن وجود ملفات أمنية لهولاء الطلاب تجعلهم موصومين بالتطرف، وتَصِفُهُم بأنهم غير «وطنيين». وقد يترتب على ذلك مطاردتهم «أمنيًا» بعد التخرج، وربما حرمانهم من فرصة عمل داخل أجهزة الدولة؟!

وقد يتحمل أبناؤهم فى المستقبل نتائج توجهاتهم.. إننا يا صديقى القائد إذا أقصينا هؤلاء من الحوار؛ فسوف لا نُقصِى بعضاً من الطلاب، وإنما قد نقصى جيلا، وربما أجيالاً كاملة من الانتماء للوطن..! فعادة ما تمنع تلك الملفات أصحابها من الطموح الإدارى، إذ إنها تقف دائما حائلاً بين المواطن وحلمُه..!

وهنا سكت ذلك الضابط المحترم، ثم قال: يا دكتور إذا غيروا توجهاتهم فسوف تتغير التقارير.. ولا يجب على الأمن أن يقف متفرجاً على هذه التوجهات المناوئة أو حتى الناقدة لسياسة الدولة. فقلت له: أولاً القانون فى بلادنا لا يعرف الرحمة .. ثانياً ذاكرة الأمن لا تعرف النسيان وملفاتها ساخنة، وقد تشعلها «وِشيَّة»..!

دعنى يا صديقى أتصفح ذهنية طلابى وأكشف ما خبئ فيها من فساد.. ودع طلابى يعبرون عن آرائهم دون خوف، وبأى لغة، ما داموا فى حظيرتنا وأمام أعيننا. دعنا نحاورهم فيما يرون بكل حرية ووضوح. وأعدك بأننا كأساتذة قادرون على إعادتهم إلى الصف الوطنى، بل منعهم من الشرود بعيداً عن السرب.

ضحك الضابط المحترم، وقال: من الآن أنا ساعدك الأيمن، ولن أكتب تقريرا واحداً عن طالب، إلا إذا تيقنت بأنه صاحب عقلية تستعصى على الحوار.. فتمنيت حينها لو كانت الداخلية كلها ذلك الضابط المحترم..! وبعد انقضاء عام دراسى واحد، تزاوجت فيه قوة السلطة مع الحوار، وتراجع فيه عدد كبير من الطلاب عن توجهاتهم الدينية المتشددة وأفكارهم اليسارية المتطرفة.. تم ترقية الضابط ونقله للعمل فى مكان آخر.. فكانت نهاية التجربة..!

وبعد حصولى على درجة الدكتوراه دعتنى الجامعة إلى المشاركة فى بعض الأنشطة الطلابية المتعلقة بتثقيف الطلاب. فاخترت موضوعًا عنوانه «إشكالية الوعى الإنسانى فى ظل العولمة..»، وفى تلك اللقاءات كنت أحدث الطلاب عن رواد الوعى الإنسانى فى أواخر القرن الـ19 وبدايات الـ20 كجمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومحمد نديم وفتحى زغلول والأخوين على ومصطفى أمين وهدى شعراوى وعبدالرحمن الكوكبى والشيخ مصطفى عبدالرازق وعلى مبارك. ودشنت حوارًا مفتوحًا وآمنًا مع الطلاب، وأخذ الطلاب يناقشون وبمنتهى الشجاعة توجهاتهم، دون خوف منهم أو قلق، بل ويميطون اللثام عن توجهاتهم الأيديولوجية، خاصة الطلاب الذين كانوا ينتمون إلى الجماعات الدينية المتشددة. وبتكرار الحوار تراجع الطلاب عن توجهاتهم، وأعلنوا خروجهم من تلك التنظيمات..!

وذات يوم فوجئت باتصال من صديقى، الذى كان يعمل حينها مديرًا لمكتب رئيس الجامعة، وبعد أن شكرنى على نجاح المبادرة، نصحنى بعدم الاستمرار فيها، معللا نصيحته بأن عزوف الطلاب عن المشاركة فى أنشطة الجماعات الدينية أصبح مصدر قلق لقادتهم.. وأن الاستمرار فى هذه المبادرة ربما يشكل خطرًا على حياتى..!