رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطب والسياسة


طُرِح من جديد السؤال القديم: هل الطب مجرد مهنة، وسلعة تُباع وتُشترى، ومَن يرد التمتُع بالخدمة الصحية فعليه أن يُسدِّد ثمنها؟، وفى إطار هذا المفهوم تم توجيه سهام النقد لفترات تاريخية معينة، ولسياسات صحية سادت آنذاك، وروَّج أصحاب هذا التيار لمبدأ «تسليع الطب»، أى جعل الطب سلعة للعرض والطلب، تُباع وتُشترى!، ونسى هؤلاء أن هناك تجربة مصرية طويلة فى الربط بين الطب والسياسة، والتاريخ الاجتماعى للطب فى مصر.



يُجمِع جل المؤرخين على أن محمد على هو مؤسس الدولة الحديثة فى مصر، وأدرك محمد علىَّ مبكرًا أهمية الربط بين الطب والسياسة، وأهمية البعد الاجتماعى فى المسألة، وأنه لا يستطيع إنشاء دولة حديثة دون سياسة صحية سليمة. وبطبيعة الحال كان إنشاء جيش حديث قوى هو عماد تجربة محمد علىَّ، وأدرك الأخير أنه، وقد اعتمد سياسة التجنيد من المصريين لأول مرة، فعليه أن يولى عناية خاصة بالصحة العامة فى مصر، حتى يستطيع توفير الأعداد الكافية والصالحة للعسكرية. وتوضح وثائق عصر محمد على فى بداية التجربة إدراك الدولة لأهمية ذلك، حيث تعترف الوثائق بأن «الأمراض تفتك بالجنود أكثر من نيران العدو»!.

من هنا نستطيع أن نفسر اهتمام دولة محمد على بأمراض النساء وإنشاء «مدرسة القابلات» والاهتمام بصحة الأطفال، من أجل زيادة المواليد والحد من وفيات الأطفال، حتى تتوفر الثروة البشرية الكافية والصالحة للخدمة العسكرية، أو حتى للعمل فى مصانع الدولة.. ولهذا رسم ورصد الطبيب الفرنسى الشهير «كلوت بك» معالم هذه التجربة الهامة فى كيفية إدراك الدولة الحديثة للبعد الاجتماعى للطب.

كما أدرك محمد على أن انتشار الأمراض والأوبئة فى مصر سوف يؤثر على صورة مصر فى أوروبا، هذه الصورة التى كان يسعى لتحسينها، وأيضًا من منظور اقتصادى فالمسألة الصحية ربما تؤثر بالسلب على صادرات مصر لأوروبا، وهى الصادرات التى يسعى إلى تنميتها.

وفى كتابه الهام «الطب والجراحة فى مصر من زمن الحملة الفرنسية وحتى العصر الحديث»، يرصد الجراح المصرى الكبير الدكتور أحمد جميل الشرقاوى ارتباط تقدم الطب فى مصر بتجربة التحديث، وكيف تراجع الطب مع انهيار تجربة محمد على، ثم عودة الازدهار من جديد مع تجربة الخديو إسماعيل ومشروعه فى جعل مصر قطعة من أوروبا، ومع الاحتلال البريطانى لمصر فى عام 1882 تتراجع النهضة الصحية من جديد، مما يؤثر على أوضاع المؤسسات الصحية والمجتمع.

ومع تطور الحركة الوطنية وقيام ثورة 1919، وإعلان المملكة المصرية، وتحول الجامعة الأهلية إلى الجامعة المصرية فى عام 1925، تتحول مدرسة الطب إلى كلية الطب وتدخل فى عصر ازدهار جديد.

وينتقل الشرقاوى بعد ذلك إلى فترة ثورة 23 يوليو 1952، ليرى فى هذه الفترة نهضة صحية جديدة «إن الطموحات الاجتماعية والسياسية لثورة 23 يوليو أثرت تأثيرًا كبيرًا وزادت من الدور الاجتماعى لمهنة الطب، حتى جاءت سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عصر السادات لتغير طبيعة ممارسة المهنة مرة ثانية».

علينا أن ندرس جيدًا التجربة التاريخية المصرية فى أهمية البعد الاجتماعى للصحة والتعليم ونحن نرسم استراتيجية المستقبل.