رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العقاد يستحق عصره


عن عمر يناهز الـ75 سنة رحل عن عالمنا الكاتب والمفكر والفيلسوف والشاعر والسياسى الوطنى والباحث المدقق عباس محمود العقاد فى مثل هذا الأسبوع من شهر مارس 1964، وهو الذى رغم ما كان يبدو على شخصه وما عرف عنه عند تعامله مع ذاته بكل صرامة وجلد ومثابرة وشدة بأس وتغليبه العقل وانتصاره للمنطق، فهو الذى قال عن شخصه «يأسرنى الفن الجميل، حتى إننى أبكى فى مشهد عاطفى أو درامى مُتقن الأداء، وأذكر أننى بكيت فى أول فيلم أجنبى ناطق، وكان يمثله الممثل القديم آل جولسون، عندما كان معه طفل صغير يمثل دور الابن الذى حُرم من أمه وظل هدفا للإهمال حتى مات.



لقد بكيت، ولم أستطع النوم فى تلك الليلة، إلا بعد أن غسلت رأسى بالماء الساخن ثلاث مرات متتالية..»، ويضيف «ومن صفاتى التى لا يعرفها الناس أننى إذا عوملت بالتسامح لا أبدأ بالعدوان أبدًا»... وعن الكون والوجود يقول العقاد «أريد تأليف كتاب عن الكون وكتاب عن الإنسان أشرح فيهما ما أفهمه وما أحسه من معنى وجود المادة ومعنى وجود الفكرة أو الضمير أو الروح.. لقد ألفت عن الأنبياء فكتبت (عبقرية محمد) و(عبقرية المسيح) و(أبوالأنبياء إبراهيم).. وبقيت (عبقرية موسى الكليم) وبقيت معها (عبقرية بوذا)و(عبقرية كنفشيوس).. ذلك أنى تبينت من دراسة تاريخ النبوات أن أنبياء الأديان الثلاثة الكبرى وهى اليهودية والمسيحية والإسلام قد ظهروا فى الشرق الأوسط بين الأمم السامية، وتفسيرى لذلك أن النبوة لم تكن لتظهر فى بلاد الدول المتسلطة، لأنها تخضع فى شرائعها وآدابها لقوانين السلطان وعُرف الكهان..»... ويضيف العقاد «فى هذه البيئة تتهيأ الأحوال النفسية والاجتماعية لظهور هُداة الأديان ودعاة الإصلاح والإنصاف من الرسل والأنبياء، ولهذا ظهر إبراهيم فى مدن القوافل بين «أور» فى الفرات وبعلبك فى سورية وبيت المقدس فى فلسطين، وظهر موسى فى مدين وما حولها، وظهر المسيح فى الخليل ثم فى بيت المقدس، وظهر نبى الإسلام فى مكة بعد أن ظهر أنبياء العرب حيث تقوم العلاقات وسطا بين شريعة الدولة وشريعة البادية..»... بهذا التوجه، وعبر مناخ يتسم بالسماحة قدم العقاد وغيره من الأدباء والكتاب وأهل التأريخ والتوثيق إبداعاتهم وإنجازاتهم الفكرية دون حسابات أو ادعاء البعض عليهم بإثارة الفتن الطائفية، أو اتهامهم بالتقليل من شأن الأديان، بل على العكس كان الاستقبال الرائع لاجتهادات ذلك المفكر فى تناول عبقريات أصحاب الرسالات والأدوار التاريخية والمذهبية والعقائدية فى سماحة نفتقدها اليوم بعد انتشار وجود أصحاب التوجهات التكفيرية الرافضة لأى اجتهاد، فى مصادرة مقيتة متعجلة دون حوار عبر إقامة الدعاوى القضائية ودعاوى الحسبة والتفريق والاتجاه نحو الاستخدام السلبى لأجهزة الإعلام وفضائيات الفتاوى وتفسير الأحلام، وباتت المعتقدات الشعبية تترسخ لدى العامة على أنها جزء من العقيدة .. وبتنا نسأل مع مبدعى «قهوة سادة» هل نستسلم لاحتساء القهوة السادة فى مأتم الإبداع الجميل؟!

نحن نعيش أزمنة التكفير المجانى بكل استعلاء واستبداد، وبدا بعض رموز الأديان، للأسف، فى حالة استسهال لإطلاق الاتهامات بالجهالة لكل صاحب رأى مخالف بإصدار فتاوى تحريم الإبداع بعد أن كانت الأديان تمثل إلهاما رائعا للفنانين، ومساجدنا وكنائسنا كانت تشهد بما احتوته من زخارف وأيقونات وأعمال إبداعية من الخشب والجص والزجاج بروعة الاهتمام بالجوانب الإبداعية على حوائطها وأبوابها وأسقفها، والأهم جماليات البناء المعمارى الإسلامى والمسيحى.

فى كتابه عن السيد المسيح يقول عباس محمود العقاد «وللسيد المسيح طبيعة أخرى غير طبيعة يحيى بن زكريا، فلم يكن متأبدًا ولا نافرًا من الناس، بل كان يمشى مع الصالحين والخاطئين، وكان يشهد الولائم والأعراس، ولم يكن يكره التحية الكريمة التى تصدر من القلب، ولو كانت فيها نفقة وكلفة، ووبخ تلاميذه مرة لأنهم تقشفوا وتزمتوا فاستكثروا أن تريق إحدى النساء على رأسه قارورة طيب تُشترى بالدنانير، وقالوا: لماذا هذا السرف؟ لقد كان أحرى بها بهذا الطيب أن يُباع ويُعطى ثمنه للفقراء، فقال لهم عليه السلام: ما بالكم تزعجون المرأة؟ إنها أحسنت بى عملًا، وإن الفقراء معكم اليوم وغدًا، ولست معكم فى كل حين.. هذه السماحة قد اصطدمت بعماية الشهوات وعناد الغرور، كما اصطدمت بهما تلك الصرامة، وقد أحصى السيد المسيح على عصره هذه الصدمة فقال: إن يوحنا جاءهم لا يأكل ولا يشرب، فقالوا به مس شيطان، ثم جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فقالوا إنه إنسان أكول شريب محب للعشارين والخطاة.. رسالة قد استوفت تجربتها بل تجربتيها، وخرجت من التجربتين معا إنسانية عالمية تنادى من يستمع إليها، وتعرض عمن أعرض عن دعوتها بل دعوتيها: دعوة الغيرة الصارمة الأبية، ودعوة الغيرة السمحة الرضية.

وفى النهاية أسأل، هل كان يمكن أن يفكر العقاد فى تأليف كتابه «المسيح» فى زمن كالذى نعيشه، الذى تأتى فيه المصادرة قبل الإصدار والتكفير قبل التفكير؟!!.الحمد لله أن الرجل عاش عصرًا يستحقه حتى ينعم القارئ المصرى والعربى بهذا الزخم الفكرى الرائع للعقاد وغيره من أساطين العطاء الأدبى والسينمائى والموسيقى والغنائى والتشكيلى العبقرى الذى نقتات ونعيش على ما أنتجوه الآن، ونباهى بإنتاجهم وبهم الأمم.

أخيرًا لابد أن يكون هناك رجال يعملون على تحقيق التعايش الفكرى حتى يتحقق التعايش السلمى.. رجال لديهم إحساس كامل ورائع ببديهية دعوة كل الأديان للتسامح، وأن التعصب والتشدد المريض هو صناعة إنسانية بغيضة!!