رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإعلان الأساسى.. يا للى عطشان وناسى!


فى 1960 بدأ التليفزيون المصرى بث برامجه. فى حينه كان ذلك اختراعاً مذهلاً، أن تكون «السينما» فى بيتك، وأنت جالس، ومجانا! قبل التليفزيون كنا نتردد على سينما الشرق المجاورة لبيتنا بالسيدة زينب وكانت تمتاز بأن رائحة مراحيضها تهب وتغطى الشرقين زاحفة إلى الغرب الاستعمارى فلا يفكر مجرد التفكير فى غزو بلادنا التى تنبعث من قاعات الفن والحضارة فيها هذا العطر. ما بالك بالأماكن الأخرى؟! بظهور التليفزيون قل ترددنا على «الشرق» الفواح، وصرنا نجلس مع أمى على الأرض فى صالة بيتنا ونبحلق فى الجهاز الذى بدا فى عليائه على التسريحة معبوداً مقدساً، كنا نغطيه بقماشة، وننفض التراب عنه فى ذهابنا ورجوعنا من المطبخ، ثم نبتهل إلى الله قبل النوم أن يحفظه ويصونه. حينذاك كانت ساعات الإرسال محدودة، ولم يكن هناك من إعلانات سوى واحد مازلت أذكره عن سوء استخدام المياه وفيه تتهادى كالبطة سيدة بدينة تخرج من المطبخ على إيقاع راقص «ست سنية.. سايبة المية.. ترخ.. ترخ.. من الحنفية»! وكان هناك إعلانآخر عن التأمين على الحياة، ومسلسلان واحد أجنبي، والثانى مصرى هو «هارب من الأيام» ظهر فى 1962بطولة عبد الله غيث الذى كان يهرب من الأيام – لا أدرى ولا أذكر إلى أين أو لماذا- يهرب بالشهور فلا يقطع عليه هروبه الطويل الملل إعلان واحد. كانت الإعلانات قليلة، مهذبة من حيث الفكرة و اللغة والتجسيد. لم نر الإعلانات الصارخة التى تقدس الثروة وتمجد المال والقدرة على شراء الفيللات والتنعم بالمنتجعات وما شابه. كانت الإعلانات بشكل أو بآخر جزءاً من سياسة نظام يسعى للتنمية وينفر من الكماليات. ثم أخذت الإعلانات تصبح حرفة ومصدر ثروة للتليفزيون والشركات والأفراد. هذا العام قدر الخبراء حجم الإعلانات الاقتصادى فى شهر رمضان بنحو مليار جنيه! وبلغ سعر دقيقة الإعلان فى القنوات ستين ألف جنيه وأكثر! معظم الإعلانات ألحت بسماجة وقلة ذوق على شراء الفيللات ذوات الحديقة والحديقتين والمسابح وهلم جرا، وذلك فى مجتمع يعيش نحو ثلاثين بالمئة منه تحت خط الفقر، ولا يسع إلا القلة القليلة جدا الترفيه عن نفسها بالنعيم المعلن عنه. وتضع الإعلانات المشاهد فى وضع الإنسان الغبى الذى لا يدرك مزايا الفيللات بأسئلة سخيفة من نوع: «ولماذا لا تشترى فيللا بحديقتين؟ ألم تخطر الفكرة ببالك؟! ألم تكن تعلم؟». كأن مشكلة الفقرء أنهم أغبياء لا تخطر على عقولهم الأفكار الذكية! وتذكرنى تلك الإعلانات بترسو سينما الشرق، حيث كنا نجلس على دكة طويلة غارقين فى الحر ورائحة المراحيض والجوع، فيمر فى تلك الأثناء بائع «كوكاكولا» مثلجة ينادي: «ياللى عطشان وناسى»! كأنما مشكلتنا أننا ننسى! وليس أننا مفلسون! لماذا لا يفكر أصحاب الإعلانات الصارخة فى طريقة أخرى: إنشاء مدارس ومستشفيات بهذا المليار جنيه ونقش أسماء شركاتهم ومنتجعاتهم على جدرانها؟ هذا أيضاً إعلان لكنه مفيد لكم وأيضا للناس. يبقى الإعلان الأساسى الموحد خلف كل الإعلانات الجارية: إعلان ضخم عن دولة الفوارق الطبقية الصارخة! حيث انعدم ضمير القلة عديمة الضمير والثقافة واللباقة والتى لم تعد تخجل بعد أن نهبت الثروة من التباهى بمتعها أمام الفقراء والجوعى وأطفال الشوارع. وقديما قال على بن أبى طالب رضى الله عنه « ما جاع فقير إلا بما تمتع به غنى»!