رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نقدنا.. يحتاج إلى نقد لكونه نكداً


لا شك أننا نلاحظ تدنى قيمة النقد المصرى حتى عشنا لنسمع تعبير تخفيض قيمة الجنيه وكأنه لم ينخفض إلى ما لم نكن نتصور تدهور قيمته السوقية ومعاداته مع النقد العالمى، لا سيما لجيلنا الذى عاش زمن الجنيه المصرى الذى وصف بلغة الفلاح والعامل «أنه يذبح الفرخة» ولم نفهم معناه فى طفولتنا لأننا لم نكن نمسك به، حين كنا نعرف قيمة المليم الأحمر الذى يحمل على أحد وجهيه صورة ملك مصر...


... ومن البديهى أن صورة ملك مصر والسودان لا توضع على معادن رخيصة. أما ولم تعد صور رؤسائنا يحملها نقدنا فلا مانع من اختيار أقل المواد قيمة وكرامة.

يتذكر أبناء جيلنا ليلة أن فتحت البنوك أبوابها حتى منتصف الليل لاستبدال أوراق النقد من فئتى المائة جنيه والخمسين جنيها وأعتقد - إن لم تخنى الذاكرة، فلم تكن فئة العشرين قائمة من الأصل، بل بعد الخمسين كانت العشرة والخمسة والجنيه أو السيد جنيه الذى يذبح الفرخة، لأن قيمته كانت كفيلة بشراء أكثر من فرخة وثلاث بيضات بقرش واحد.

وحتى لا نبكى على اللبن المسكوب، ولكن البكاء على دوام إهداره وانهياره، والدليل أننا عدنا إلى أوراق من فئة المائة جنيه، ثم المائتى جنيه، وغالبا لن نتوقف عند الأخيرة عندما يلحقها من هى أكبر منها كما حدث لدول أخرى منها القريب ومنها البعيد، حتى بلغت قيمة بعضها أنها تحمل رقم الألف، ولكن لا تكفى لشراء كوب ماء بارد.

وحتى لا أستغرق فى الحسرة على تاريخ ولى وانتهى، لكنى لا أتغاضى عن مستوى أوراق النقد التى تدنت فى نوعيتها، فها نحن نتبادل أوراقا سيئة النوعية، لا تتحمل تداولا طويلا أوحتى قصيرا، وخاصة فى فئات العشرة والعشرين جنيهاً، لدرجة الخوف من نقل العدوى إلى ما هو أكبر، ولأنها هزيلة القيمة فلا تستحق التخلص منها ليحل الجديد مكانها، وربما قصد الاستغناء عن هذه الأوراق قليلة القيمة ليحل مكانها عملات معدنية تتعادل مع قيمتها السوقية لتصبح بديل القروش والمليمات أيام زمان، ويتصاعد النقد الورقى الذى يحمل اليوم فئة المائة جنيه ثم المائتين، والبقية تلحق تصاعديا، فبقدر تدنى القيمة يرتفع الرقم المدون على الأوراق.

أما تجاوبا على من يتساءل لماذا الرجوع إلى الماضى، وتزايد عدد السكان بسرعة تفوق سرعة الإنتاج ومساحة الأرض المنزرعة، وأزمة الإسكان التى أدت الى التعدى على الأرض الزراعية نتيجة سوء التخطيط ومحدودية فرص العمل فى المدن الجديدة، وحتى بعد البدء المتأخر، فإن المشروعات الجديدة ارتبطت بالمدن الكبرى المكتظة بالسكان مما أدى إلى أزمات إسكانية ووسائل نقل، فحتى من سكنوا المدن الجديدة لم يتركوا مساكنهم فى المدن القديمة كالقاهرة والإسكندرية مما زاد الهم هما أكبر.

أممنا المصانع الكبرى لتنتقل ملكيتها من أصحابها إلى الدولة، حتى أصبحت ثقلا على الدولة، فما تنتج لا يكفى أجور عامليها، فضلا عن تكلفة الإنتاج الذى لا يستطيع منافسة ما يأتينا من الصين بأسعار تقل كثيرا، فها نحن نرى نماذج آثارنا الفرعونية كالأهرامات وأبى الهول مصنوعة فى الصين، ويبيعها المصريون لضيوفنا حول أهراماتنا، فيا لهول أبى الهول، يقلدونك فى الصين حتى تاجروا بك فى بلاد العم سام، حتى إن أكبر فنادق العالم فى مدينة لاس فيجاس بالولايات المتحدة واسمه «فندق الأقصر»، وأراد مصممه أن ينقل مدينتنا إلى لاس فيجاس بكل آثارها التى تباع بمحلات ذلك الفندق ولكنها مقلدة ومصنوعة ربما أكثرها فى الصين، وفى زيارتى الأخيرة منذ بضعة أسابيع قلت إن من حقنا كمصر أن نطالب بحق تقليد مدينتنا التى تحمل كل مظاهر أقصرنا، ولا أظن أن من بناه استأذن من حكومتنا، والتى لا تملك حق الإذن ما لم يكن لمصر فائدة فى ذلك التقليد، إنها حقوق لمصرنا شعبها أولى بها.

وحتى لا أستغرق فى الحسرة وأبتعد وقارئى عما بدأت بموضوع أوراق النقد المهترئ، وما يحتمل نقله للأمراض نتيجة تلوثه والقصور فى إعدامه وإعادة إصداره، فضلا عن تدنى قيمته لدرجة إصدار ورقة تحمل رقم المائتى جنيه وربما الأكبرمنها قادم وقريب طالما اعترفنا بخفض قيمة الجنيه وتكلفة طباعته، الأمر الذى معه ينتقل المرض.

أما من يقول إن دولا كثيرة أخرى تدهورت عملاتها حتى رأينا الورقة الواحدة تحمل ثلاثة أصفار، وهى أصغر العملات قيمة، فهل نحن فى طريقنا إلى المصير نفسه؟

وحتى لا نسترسل فى أزماتنا فَنَنسِى أننا أقمنا المصانع الكبرى أو أممناها لتصبح قطاعا عاما تمتلكه الدولة، ولصالح الشعب، وشعارنا «من الشعب وللشعب بالشعب»، لكننا لم نثقف عاملينا، ولم نحسن إدارتها، وفتحنا كل الأبواب لدخول ما ينافسنا جودة وأسعاراً، وأضيف إلى كل هذا تهالك المعدات، وفقر الصيانة، وزحام التنافس الأرخص سعراً أو الأفضل جودة، وكادت مصانعنا أومعظمها تصبح أطلالاً تخلو من كل شىء إلا المبانى المتهالكة.

وحتى لا أترك الموضوع الذى بدأته بحال نقدنا المتدنى نوعاً وكماً لتصبح الورقة المالية مصدر عدوى بعد أن كانت مصدرا للبهرجة للصغير ومصدر أمراض لكل من يتداولها، إننى لا أستطيع أن أجد مبررا لبقاء عملات تشكل عدوى مرضية إلا لأن قيمتها فى نظر مصدّريها لا تساوى تكلفة إعادة إصدارها، كما أن صحة متداوليها لا تهم كثيرين ممن بيدهم إعادة طباعتها، ناسين تجارب دول أخرى مثل كندا ومن قبلها استراليا، والدولتان تصدران عملتهما على نقد مصنوع من مادة غير قابلة للتمزق وغير قابلة للاتساخ، حتى يمكن غسلها بالماء والصابون، وبذلك أصابوا أكثر من هدف، منها توفير الطباعة، فالأوراق لا تذبل ولا تتمزق وربما لا تحترق.

أما جهة إصدار نقدنا فلا تعبأ كثيرا بصحتنا ولا بنوعية نقدنا، وعلى المتضرر انتظار دوره فى «القرافة»، والسؤال ماذا يريد السادة المسئولون عن طباعة أوراقنا النقدية التى أصبحت نكدية، مع استبدال حرف واحد بجاره من الحروف الهجائية؟ وكفانا إهانة لعملاتنا التى لا غنى عنها فى حياتنا اليومية، وليت وزيرنا المختص يجرب بنفسه أن يجرب عشوائيا سحبه لرواتبهم من ماكينات السحب العادية، فربما يصيبه بعض ما يصيبنا فى عملاتنا لا سيما فئة العشرين جنيهاً، إلا إذا كانت المقامات السامية لا تتعامل بالأوراق الدنيا، لكن فى تصورى أن بقية الأخوات من أوراق النقد الأعلى فى طريقها إلى المستوى نفسه فقط يعوزنا الوقت وإن لم يكن طويلاً كما يظن، أو يزعمون.

أما إذا كان البنك المركزى أو جهة إصدار العملات لا يعنيهم صحة المواطن، وما يتطلبه من علاج وأدوية، فليراعوا ضيوفنا الذين ندعوهم بإلحاح أن يتمتعوا بجمال آثارنا، وطيب هوانا، وكرم شعبنا، الشعب المتفرد فى إكرام الغريب أكثر من أقرب المقربين إليه.

■ الرئيس الشرفى للطائفة الإنجيلية بمصر