رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فوضى الإعلانات وهيمنة النجوم!


إن الشىء الوحيد «الثابت» فى الحياة.. هو «التغيير»!!، ومثال ذلك: التغيير الجذرى فى شكل الإعلانات وإخراجها التى تقتحم قسراً عين المشاهد وأذن المتلقى، وتعترض طريقه كلوحات مضيئة على كل الطرق والبنايات لتصل إليك حتى على زجاج سيارتك، تدعوك إلى شراء أى شىء وكل شىء فى إلحاح يصل إلى حد الزهق وخبراء الإعلان يعدون وصولك إلى تلك الحالة من الاستفزاز بمثابة نجاح لحملتهم الإعلانية، وغالبًا ماتكون عن سلع ومنتجات من الفرز الثالث أو الرابع وربما العاشر، أو عن بضائع راكدة بالمخازن ولا تلقى القبول الواجب من مستهلكيها، ولاتتناسب والذوق والآداب العامة، ويعدون أن «الجثوم» على عين وأذن المستهلك يحرك لديه الغريزة الشرائية لمنتجات لا يحتاجها أصلاً. ولكن خبراء الإعلان يعتنقون المثل الشعبى العبقرى: «الزَّن على الودان.. أمرْ من السحر»!! باستثناء بعض السلع البسيطة التى لها مصداقية، ونحن لا نقعِّد على الاستثناء! لذا، دعونى أتناول واحدة من فوضى الإعلانات لنطرح قضية تشغل بال الرأى العام المهتم بقضايا النجوم والفنانين والمبدعين أصحاب الشعبية الكبيرة فى كل المجالات، والذين يستخدمهم خبراء الإعلان كـ «همزة وصل» بينهم وبين الجماهير المستهلكة؛ لمغازلتها للترويج لبضاعتهم الجيدة أو الرديئة، واللعب على حبل حب الجماهير لأولئك النجوم، واستغلال الحالة النفسية لتركيبة الإنسان وميله الفطرى نحو التقليد ـ خاصة تقليد النجوم والمشاهير ــ فيظهر منهم من يحذو حذو النجم الشهير فى ملبسه وعطره، أو أيَّا كان المنتج الذى يعلن عنه.

حتى إن كان «شايًا» أو «قهوة»، متباهيًا به وسط أصدقائه، أو استعمال السيدات لمستحضرات تجميل أو عطور خاصة وخلافه، مما تقوم النجمة بالترويج له مهما غلا ثمنه. فى حين تربى جيل بأكمله ـ منذ زمن ـ على إعلانات توعوية تقوم بها الدولة للترشيد فى استخدام مياه الشرب مثلاً، كما يحدث الآن لترشيد الطاقة، فرأينا إعلانات «الست سنية.. سايبة الميه من الحنفية»، وإعلانات أغذية الأطفال التى كان يرددها الصغارعن «إجرى شوية يا واد يا حسين... إلخ»، ثم بدأت عوامل التطوير والتغيير من الإعلانات التوعوية للمجتمع، إلى مخاطبة أحلام الرفاهية لدى الانفتاحيين وأثرياء الصدفة والمليونيرات؛ بمداعبة خيالاتهم فى امتلاك الشاليهات والقصور الصغيرة «الفيللات» المطلة على المساحات الخضراء وحمامات السباحة، ووصل الأمر بمحترفى هذا الاستفزاز، إلى الإعلان عن اختراع خرافى يعيد تاريخ «حدائق بابل المعلقة»؛ بوجود الحدائق فى كل دور من أدوار العقار حتى الدور الثالث ! ليظهر للمشاهد الإخوة المتصارعين على توزيع الميراث ، ليظهرالأخ الثالث السمين؛ وينتقى حديقة الدور الثالث لنفسه؛ ليخبرنا بأنه سيستمتع بالانفراد بأسياخ «الكفتة المشوية» على راحته ومزاجه!

ليزيد قهر من لايقدرون على مجرد حق الاستمتاع بـ «كوز دُرة مشوي» على الرصيف. ويزداد استفزار الإعلان ليصل إلى الأرقام صاحبة الأصفار الستة على يمين العدد، غيرعابئ بالفقراء والمعدمين والمهمشين من سكان العشوائيات والخيام وعشش الصفيح؛ أهل العرق والكفاح الذين يتعجبون ويضربون كفاً بكف حين يرون ـ على النقيض ـ إعلانات تحث الشعب على جمع التبرعات منها: حملة تبرع ولو بجنيه سواء لـصندوق «تحيا مصر» أو لبناء مستشفى، أو دار للأيتام، أو مايسمى ببنك الطعام... إلخ. ويأتى هذا العام ـ بما لم يتوقعه أحد ـ ليزداد الطين «بلة»؛ بالإعلانات السخيفة عن قطع «الملابس الداخلية» مقرونًا بإيحاءات وغمزات ولمزات، لاتخفى على المشاهد؛ وبما لايتفق وطبيعة مجتمعنا المصرى والحد الأدنى من الحياء الواجب. وللأسفلاتحرك جمعية حماية المستهلك ساكنًا؛ لردع هؤلاء الذين لايتورعون عن زرع المزيد من بذور الحقد والضغينة فى نفوس البسطاء، ولا يعنيهم سوى جذب اهتمام الفئة التى لاتزيد على عشرة بالمائة من تعداد الشعب المصرى على اتساع خريطته من أسوان إلى الإسكندرية. وكان من الواجب ضرورة تكوين لجان محايدة تعمل على مراجعة هذه الإعلانات وإقرارها طبقًا للمعايير الأخلاقية التى تربت عليها الأجيال المتعاقبة، التى أفرزت عمالقة السياسة والفنون والآداب فى حقبة الزمن الجميل التى نتمنى عودتها بكل اللهفة والاشتياق.

والأغرب من كل هذا هو سيطرة الإعلانات على الأعمال الفنية الدرامية والأفلام، ويأتى هذا على حساب متعة المشاهد فى متابعته لها، لدرجة أننا لو قمنا بحصر المساحة المستغلة فى الإعلان لوجدناها تفوق أو تتساوى مع مساحة مدة عرض العمل الفنى، سواء كان مسلسلاً أو مسرحية أو برنامجاً، مما يصيب المشاهد بالملل والضجر، ناهيك عن فوضى الإعلانات واختراقها للنشرات الإخبارية، فتبتعد بها عن الجديَّة الواجبة، علاوة على تشتيت ذهن المتلقى وانصرافه عن متابعة الأحداث الجارية. ولنا أن نتساءل بجدية تجاه هيمنة النجوم على الإعلانات: هل قيام النجم منهم بالسير وراء سطوة الإعلان والنجومية يزيده شهرة أم ينتقص منها؟ وهل أسباب قبوله للقيام بدور فتى/ فتاة الإعلان هو الحصول على المال، حتى لو لم يكن مقتنعاً بجودة السلعة التى يقوم بالإعلان عنها ـ هذا إذا افترضنا جدلاً أنه قد تحرَّى مسبقًا عن مصداقية المنتج ـ؟ وهل يُعد استغلال الأطفال فى الترويج للسلع أمراً مقبولاً على المستوى التربوى؟ والاستفسارات فى هذا المجال كثيرة.. فهل من مجيب؟!

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون