رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفساد.. والغش فى الامتحانات


فى أوائل عام 2003 عادت ابنتى غاضبة من عملها فى إحدى الجامعات الخاصة، وكانت تشغل فى ذلك الوقت وظيفة معيدة وتراقب على الامتحانات. وبصوت مرتفع حاد متوتر، وعيونها مليئة بالدموع صاحت فى وجهى «أنت ربتينا غلط ياماما. فهمتينا إن الغش حرام. حكيت لنا واحنا صغيرين أنا وأختى عن بائع اللبن الذى كان يغش اللبن بالماء ظنا منه أن أحدا لن يراه. ولكن اللهيراه. فاكرة؟» رددت عليها: نعم فاكرة. ماذا حدث؟ قالت ابنتى إنها دخلت إلى لجنة الامتحانات، وأثناء المراقبة على الطلاب، وإذا بأحد الطلبة يخرج من جيبه ورقة صغيرة «برشامة»، وأخذ ينقل منها، بل ويغشش زملاءه وبصوت عال. وعندما ضبطته متلبساً أصررت على عمل محضر غش للطالب. وإذا بمعظم زملائها والعاملين بشئون الطلبة والكلية وصاحب الجامعة يتواطؤون جميعاً حتى لا يتم عمل محضر. وأخذوا يقنعونها أن هذا شىء عادى يتم فى معظم الأحيان، وعليها ألا تنزعج وتدع الأمر يمر.

تذكرت فى ذلك الوقت أخى الأكبر، وكان مدرساً للتاريخ فى بداية عمله فى منتصف السبعينيات. وذهب للمراقبة فى إحدى المدارس بقرية صغيرة تتبع مركز الواسطى بمحافظة بنى سويف. حكى لنا كيف أنه أصر على أن لا يغش التلاميذ، فإذا بالأهالى ينتظرونه فى الخارج مصرين على الاعتداء عليه، ونجا بأعجوبة عندما أرسل له ناظر المدرسة أحد العاملين بدراجة بخارية وأخرجه من الباب الخلفى للمدرسة.

ضحكت كثيراً وقلت لها إننى أنا أيضاً ربتنى أمى وربانى أبى غلط، لأنهم أصروا على أن يلقنوننى منذ الصغر أن الدين معاملة، وأن جوهر الأديان هو الصدق والأمانة وعدم الغش وعدم السرقة، وعلمانى القناعة والجد والاجتهاد. كما أنهما ربيانى على أن من يكذب أو يدارى شيئاً فهذا معناه أن هذا الشىء خطأ جسيم لا يرضى عنه المجتمع ولا يرضى عنه الله وسنعاقب عليه. وعلمانى أيضاً أن لا أخشى غير الله لا أخاف من قول الحق، وربيانى على أن الكلمة شرف.

سمعت كثيراً من الأقاويل وأنا صغيرة، وعرفت معناها عندما بدأت أكبر فى الحى الذى تربيت فيه. سمعت وتعلمت أن الإنسان موقف، وأن الرجل هو من يحافظ على كلمته، وأن للبيوت حرمة، ولا يدخلها أحد ولا يتهجم على أى سيدة مع بناتها فى غياب الزوج أو الأب. وعرفت أنه من العيب والخطأ أن يمد رجل يده على امرأة أو يستقوى عليها. كما تعلمت فى البيت والمدرسة احترام الكبير والبر بالوالدين.

كانت أمى تجيد القراءة والكتابة رغم خروجها من الصف الثالث الابتدائى، ولكنها كأمهات وجدات ذلك الزمان تملك القدرة على الفهم والتصرف مع الواقع، وتعرف أن الإيمان الحقيقى هو الإيمان بالجوهر وليس التمسك بالشكل والمظهر فقط.

وفى المدرسة تلقيت الدروس الأولى فى كيفية التفكير وإعمال العقل على يد الأستاذ جميل مدرس الكيمياء الذى علمنا «معادلات الكيمياء لا تحفظونها ولكن لابد من فهمها، فهناك مدخلات تساوى المخرجات». وكان ذلك عاملاً أساسياً فى فهم الحياة بكل جوانبها، وهذا هو الجانب الأول فى التعليم. المنهج العلمى فى التفكير. وفى المدرسة مارسنا هواياتنا وشجعنا مدرسونا ومدرساتنا على إخراج وتنمية مواهبنا، وهذا هو الجانب الثانى من التعليم: تنمية المهارات والمواهب. وفى كل مراحل التعليم تعلمنا حب الوطن والانتماء وهذا هو الجانب الثالث من التعليم.

أما رابع أضلاع مربع التعليم فهو الدراسة والمعرفة والتدرب فى مجال معين يؤهل للعمل فى مهنة ما. هذا غير تأصيل القيم والأخلاق. إن المجتمعات المتقدمة تقوم على العلم والعمل. إن منظومة القيم والأخلاق والضمير التى غابت وانقلبت رأساً على عقب منذ بدايات الانفتاح الاقتصادى، عصر النهب والفهلوة والنصب والجشع والطمع والسمسرة، مع تغلغل المفاهيم المتطرفة والمغلوطة لصحيح الدين بمعناه الحقيقى الذى يحمل قيم التسامح وعدم التمييز، والعدل والكرامة. أتت قيم العنف والإرهاب واستباحة الدماء والأعراض، وكانت نتيجة كل ذلك ظاهرة الغش فى الامتحانات.