رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل عن العلم.. والأدب ثانية


كتبت فى الدستور الخميس الماضى مقالاً بعنوان «العلم والأدب تفاعل مثمر»، وفى بعض الحالات أتلقى تعليقات سريعة على ما كتب، معظمها ينطوى على تقدير أو إعجاب، لكن القليل منها يغنى المقال الأصلى بوجهة نظر أو رؤية، أومعلومات جديدة من ذلك الرسالة التى جاءتنى من الأستاذ الجامعى عالم الميكانيكا د. صفاء صادق، ورسالة الأديبة د. أسماء شهاب الدين. يشير د. صفاء إلى علاقة الأدب بالعلم من خلال نموذجين: الأول هو الكاتب الروسى أنطون تشيخوف، وكان طبيباً، والذى يستعرض فى قصته «حكاية مملة» العداء للعلم حين يقول أحدهم: «الصينيون لم يعرفوا العلم، فماذا خسروه؟». فيرد عليه أستاذ آخر:» العلم أهم وأروع شىء فى حياة الإنسان».

ويؤكد تشيخوف إيمانه بالعلم على لسان الأستاذ الجامعى الذى يروى القصة حين تقول: «لا يشغلنى الآن، قبيل الموت، إلا العلم وحده، فسوف أظل مؤمناً بأن العلم ألزم شىء فى حياة الإنسان، وبه وحده سينتصر الإنسان على الطبيعة وعلى نفسه». وفى رواية تشيخوف القصيرة المسماة «المبارزة» يرصد شخصية الطاغية المستبد فى مجال العلوم! نرى ملامحه فى مجال العلم كما نراها فى الدولة والحروب، إنه لا يرحم الضعفاء ولا الفاسدين خوفاً من أن يتكاثروا ويقضوا على الحضارة! وهو كما يصفه تشيخوف: «يتدخل فى شئون الآخرين ويجبر الجميع على الخضوع له والجميع يخشاه، والناس بالنسبة له كلاب وأشياء تافهة». أما النموذج الثانى فى علاقة الأدباء بالعلم فيتجلى فى أدب نجيب محفوظ خاصة ما جاء فى روايته «أولاد حارتنا» التى نشرها عام 1959، وأثارت ومازالت جدلاً واسعاً. وتتضمن الرواية نظرة نجيب محفوظ الواضحة إلى العلم بصفته قادراً على تحويل حياة البشر وتلبية احتياجاتهم، وإذا كانت شخصية «عرفة» فى الرواية هى حاملة لواء العلم والثقافة الحديثة فإن عرفة يؤكد أن العلم: «قادر على كل شىء.. وقد يتمكن يوماً من القضاء على الفتوات أنفسهم، وتشييد المباني، وتوفير الرزق لأولاد حارتنا كافة».

لكن عرفة رمز العلم يتحسر على وضع العلماء قائلاً بمرارة: «كل ما عندى فيه فوائد للناس، لكنى لم ألق فى حياتى إلا الإساءة»! ولا تخلو أولاد حارتنا من مخاوف نجيب محفوظ من خضوع العلماء للسلطة وتحويل العلم إلى سلطة قمعية. وبهذا الصدد تشير بدورها الأديبة الطبيبة د. أسماء شهاب الدين إلى أن تقديس العلم بشكل مجرد ومطلق قد يقودنا إلى أخطاء بل وإلى خطايا كبيرة، إذ يشهد التاريخ أن العلوم طالما استخدمت كأدوات للسلطة، وأن السلطات الديكتاتورية طالما سخرت العلوم لأغراضها خاصة فى مجال الطب، وليس أدل على ذلك من النازية التى تبنت رؤية علمية مجردة من أى انحياز إنسانى قادتها إلى إجراء التجارب العلمية المحرمة على أسرى الحرب.

وهناك أشكال وتجارب كثيرة على حد قول د. أسماء شهاب الدين لتذليل العلم وتسخيره لأغراض السياسة، لذلك فإنه من الأهمية بمكان حينما نعلن عن العلاقة الوثيقة بين العلم والأدب أن نشير إلى المرتكزات والأهداف الإنسانية لتلك العلاقة بحيث تتوخى فى المجالين خير الإنسان وسعادته. شكراً للأستاذين القاصة د. أسماء شهاب الدين، ود. صفاء صادق على إغناء الموضوع بالمزيد من الملاحظات الجديرة بالتأمل.

■ أديب