رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الضميـــــــــر.. صوت الله فى الإنسان!


من هذا المنطلق نثمن مقولة الأديب المصرى الكبير توفيق الحكيم، الشهيرة التى يضع بها دستور الحياة للإنسان: «ليس العقل ما يميز الإنسان عن الحيوان ولكن الضمير»! وكم كانت تلك المقولة صادقة، ومعبرة بعمق عن البنية الحقيقية التى يجب أن تكون عليها الروح الإنسانية السمحة، والتى لاتساوى حبة خردل، إذا لم يغلفها ويحميها «الضمير» المتيقظ دومًا داخل القلب، ويسرى سريان الدماء فى العروق،

إن «الضمير» كما يصفه الفلاسفة عبارة عن تركيبة من الخبرات العاطفية والحسِّية القائمة على أساس مفهوم الإنسان للمسئولية الأخلاقية فى مجمل سلوكياته داخل المجتمع الذى يعيش بين ظهرانيه، والضمير هو الشىء الذى ليس له صفة «خلقية» ملموسة، وإنما الذى يحدده وضع الفرد داخل المجتمع وتأقلمه بحسب ظروف حياته وتربيته، ويتنامى إيجابيًا بحسب إيمان الفرد بالواجب المنوط به، والنابع من الوعى الكامل لدوره وتوجهاته ورسالته فى الحياة.

فالضمير «عند علماء النحو»: هو ما تُضمِرُه فى نفسك، ويصعُب الوقوفُ عليه، وهو مادل على متكلم كـ«أنـَّـا»، أو مخاطب كـ«أنت»، أو غائب كـ«هُو»، والجمع: ضمائر، أما الضمير المهنى فهو ما يبديه الإنسان من استقامة وعناية وحرص ودقة فى القيام بواجبات المهنة التى يعمل بها أيّا كانت، ويتبادل العامة الألفاظ المحمَّلة على اللغة كقولهم: تأنيب الضمير/عذاب الضمير/وخز الضمير، تعبيرًا عما يتخيلونه من أحاسيس الندم التى تعترى من ينحرف عن السلوك القويم، أو ارتكابه أخطاء تخالف العادات والتقاليد الإنسانية البعيدة عن السماحة والرضا والقناعة، ويقولون عمن يتصرف تصرفات عشوائية مجحفة للمجتمع بأنه فاقد الضمير أو معدوم الضمير.

إذن فالضمير هو «القاضى العادل» الذى يعيش بداخل النفس البشرية، ليكون هو الرقيب والحسيب، و«سوط» الردع الذى يرتفع ليلهب حواسك قبل ظهرك فى التوقيت المناسب لدرء انحراف أو ارتكاب معصية أو نميمة، أو إيعاز على مخالفة شرع أو عقيدة أو مبدأ من المبادئ الرفيعة السامية، وهو الذى يحذر من الخطر بالتنبيه فى الوقت الملائم، ويضئ كل الإشارات الحمراء فى الشرايين والدماغ، فيفيق الإنسان من غفلته أو من غفوة ضميره الذى يُخشى عليه من أن يذهب فى سباتٍ عميق، فيضمُر، ويذبل، وينطفىء توهجه، ويخبو، ويموت!!

فالمؤكد أن الإنسان بلا ضمير، يشبه محكمة بلا قضاة! فالدولة قادرة على تطبيق وفرض القوانين الوضعية عليه، ولكنها أبدًا لاتستطيع أن تفرض عليه الالتزام بالأخلاق السويَّة القويمة، فهى لا تعلم ما تخفيه السرائر والنفوس، فالله وحده عز وجل « يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ»، وهذه بديهية يعلمها القاصى والدانى، ممن يعرفون الله فيعرفون أنفسهم.

فما بالى اليوم، أتلفت حولى فى ذهول لأبحث وأفتش وأنقب فى جنبات المجتمع، عن هذا «الضمير الغائب» والتائه، داخل شرائح عريضة للأسف تعيش بيننا الآن فى مجتمعنا المصرى، يستوى فيهم من يغيب ضميره جهلاً، أو عمدًا، أو جنوحًا إلى السبيل غير المستقيم، بغية ربح أو استغلال، أو تجارة يريدون لها الرواج بالفساد والإفساد، ومحاربة ممنهجة لقوام المجتمع وكيان الدولة، تنفيذًا لمخططات خارجية حاقدة تريد الإطاحة بكل ما هو جميل وأصيل وفطرى فى الإنسان المصرى.. ولعل المشاهد اللاأخلاقية التى لا تعبر عن جوهر وأصالة المصريين ونشاهدها فى هذه الفترة الحرجة من تاريخنا المعاصر، فى بعض القرى والنجوع فى صعيد مصر، وترصدها وتنقلها الشاشات وصفحات الجرائد، تشى بانقلاب مثلث الأخلاق على رأسه داخل المجتمع، وتعد هذه المشاهد القميئة علامة واضحة على انعدام الضمير داخل تلك الفئة المغيبة المارقة، والتى لا تعبر إلا عن توجهاتها ومعدنها الصدئ، الذى غابت عنه فلزات وكيمياء وعناصر الضمير الحقيقى.. ولعل تلك الروائح الكريهة التى تنبعث من هذه المشاهد والتصرفات العبثية، نابعة من «جثة الضمير» الذى مات وطفحت عفونته داخل تلك الفئات التى لا ترعى حرمة، ولا تحفظ الولاء للوطن الذى نشأوا على أرضه وأكلوا من طيب ثمراته وخيراته، وحين يموت الضمير، تموت ملكة الإبداع والابتكار والحب، وتفقد الحواس خواصها وقيمتها، ليتحول الإتسان إلى «آلة» لا تعرف تروسها سوى طحن كل غالٍ ونفيس.. حتى أرواح البشر!

من هذا المنطلق نثمن مقولة الأديب المصرى الكبير توفيق الحكيم، الشهيرة التى يضع بها دستور الحياة للإنسان: «ليس العقل ما يميز الإنسان عن الحيوان ولكن الضمير»! وكم كانت تلك المقولة صادقة، ومعبرة بعمق عن البنية الحقيقية التى يجب أن تكون عليها الروح الإنسانية السمحة، والتى لاتساوى حبة خردل، إذا لم يغلفها ويحميها «الضمير» المتيقظ دومًا داخل القلب، ويسرى سريان الدماء فى العروق، وعلى هذا المنوال الذى يعطى الضمير الأهمية القصوى لاستمرار نهر الحياة فى جريانه الطبيعى، وعنه قال فيكتور هوجو: «الضمير هو «صوت» الله الموجود فى الإنسان»، ويدعمهما أحد الشعراء بقوله: «لا خيرَ فى نَيْل الحياة وعيشِها ** إذا ضاعَ مِفتاحُ الضمائرِ وانمَحَى!

ونعلم تمام العلم أن هناك شعرة رفيعة بين الطموح والطمع، وبين الاعتزاز بالنفس والغرور، وبين الحرية والفوضى، فهل نحافظ داخل مجتمعنا وعلاقاتنا على الشعرة الباقية بين الإنسان ومجتمعه بضمان اليقظة المستمرة التى لا تغفو للضمير الإنسانى؟ وهل يستلزم لضمان توهج تلك اليقظة إضافة وزارة إلى التشكيل الحكومى، ونطلق عليها لقب «وزارة الضمير»؟ بالتأكيد لسنا بحاجة إلى هذا، ولكن حاجتنا أشد إلى الإيمان بما انطوت عليه المقولات السابقة وغيرها، وعلينا أن نجعله باقيا فى أعماقنا ليرشدنا إلى الطريق المستقيم.

وها أنا أكتب لكم بوازع من ضميرى الحى!