رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التربية الجمالية والفنية.. طريقاً لنبذ العنف


لا يخفى على المتخصصين فى فروع الفنون المختلفة مظاهر الاتصال والقواسم المشتركة التى تمد جسورًا من التناغم بين كل لون من ألوان الفنون؛ فهى تستقى من جاراتها ما يغذى ويكمل ويبرز مواطن الجمال المنطوى عليه.

قد نتفق أو نختلف على بعض مما حولنا من أشياء أو معاملات حياتية أو أشخاص أو سياسات أو عقائد، لكننا فى الأغلب الأعم؛ نتفق على كل مظاهر الجمال فى الطبيعة أو السلوك الإنسانى القويم، وقد يأتى هذا الاتفاق باختلاف النسب، مابين العادى والمتوسط والجيد والممتاز، لكنه فى كل الأحوال اتفاقٌ ضمنى وتلقائى على منظومة الجمال فى شتى صوره وأساليبه.

والذى دعانى إلى تناول موضوع «الجمال»؛ هو هذا الزخم الذى تشبعت به روحيًا وعقليًا بحضورى ندوة رائعة عن «الموسيقى والفن التشكيلى»؛ داخل صرح من صروح الثقافة المصرية الرائعة. وهى الموسيقى التى يصفونها بأنها غذاء الروح؛ وهى التى تطبِّب الجراح والتشققات التى قد تحدث فى جدار الروح فى رحلة الحياة وصراعاتها، وعلاقتها بالفن التشكيلى الذى يعد موسيقا الألوان، وكُنى بالتشكيلي؛ لأنه يؤخذ من الواقع وتعاد صياغته فى شكل جديد؛ أى يتم «تشكيله» تشكيلاً جديدًا؛ يقوم به الفنان الباحث آخذًا مفرداته من محيطه، ولكل فنان رؤاه ونهجه وبصمته المتفردة على إبداعه الفني، لذا تعددت طرق المعالجات فى هذا الفن؛ وتوصلت المدارس الفنية إلى عدة تفريعات تخرج من بؤرة ضوئية واحدة، مابين المدرسة الواقعية، المدرسة الانطباعية، المدرسة الرمزية، المدرسة التعبيرية، المدرسة السيريالية، المدرسة التجريدية، وجميعها اتفق الجميع على تسميتها «الفنون المرئية» وهى مجموعة الفنون التى تعمل على إنتاج أعمال فنية يحتاج تذوقها إلى الرؤية البصرية المحسوسة، كالرسم والتلوين والنحت، وتقاس أبعادها بوحدات قياس المكان «كالمتر والمتر المربع»، وتختلف عن الفنون الزمانية كالرقص والشعر والموسيقى؛ فهى تقاس بوحدات قياس الزمن «الدقائق والثوانى»؛ وتعتمد فى التذوق على الحواس والمشاعر ومدى تأثيرها على ذائقة المتلقى.

وما أحوج الإنسان فى ظل الظروف الحياتية الضاغطة؛ إلى واحة وارفة الظلال؛ وحائط رطب يسند إليه ظهره لالتقاط الأنفاس، ولن تتأتى له هذه اللحظات الفارقة؛ إلا بتنمية الذائقة الجمالية وتربيتها داخل روحه ووجدانه؛ لتفضى به إلى لحظات التناغم والانسجام بين أفراد المجتمع الذى ينتمى إليه، فالتربية الجمالية هى أقصر الطرق إلى تحقيق التوازن الروحى والنفسي؛ بفعل التراكم اللاشعورى فى ذائقة الإنسان البصرية والحسية.

وضروب الفنون كلها تعمل على تصعيد وزيادة هرمونات الذائقة الجمالية بالموسيقى، والفن التشكيلى، والمتاحف، وصالات عرض الفنون، ونافورات الميادين، وواجهات المباني، وأسوار المدارس، والأزياء، والشعر وكل أماكن التجمعات الجماهيرية فى الحدائق والمتنزهات؛ فالاهتمام بكل هذه المظاهر لابد أن تبدأ مع النشء فى وقت مبكر من مرحلة الطفولة؛ حتى تتفتح زهور ملكة الإحساس بالجمال لديه؛ لتصير جزءًا لايتجزأ من سلوكيات حياته.

والتربية الجمالية: تعبير يُقْصَد به الجانب التربوى الذى يرقق وجدان الفرد وشعوره، ويجعله مرهف الحس، ومدركًا للذوق والجمال؛ فيبعث ذلك فى نفسه السرور والارتياح، فيرتقى وجدانه وتتهذب انفعالاته، وكل هذا يساعد على قوة الإرادة وصدق العزيمة لديه، ومنذ عهود طويلة أحس الناس أهمية الجانب الوجدانى الجمالى حتى أنَّ حكمة صينية قديمة قالت: «إذا كان معك رغيفين من الخبز فبع أحدهما واشترِ بثمنه باقة من الزهور»، ومعنى ذلك أنَّ الاستمتاع بجمال الطبيعة يسد حاجة نفسية عند الإنسان لا تقل أهمية عن الرغيف الذى يسد حاجة جسدية عنده. وبطبيعة الحال من يكتسب هذه المشاعر المرهفة التى تقترب من مشاعر المتصوفة فى محراب الجمال؛ لن يجنح إلى ارتكاب أفعال الشر والحقد ضد مجتمعه وبنى جلدته ؟ وسيبتر العنف من جذوره منخلال تكوينه السوى فيصبح أحرص الناس على إقامة علاقات طيبة مع الجميع.

وكم تمنيت أن تمتد ساعات هذه «الندوة» الرائعة؛ عن الموسيقى والفن التشكيلى بين جنبات هذه القاعة؛ لنعيش اللحظات النادرة والفارقة فى إيقاعات يوم العمل الشاق؛ والتى تكسر الملل والرتابة؛ وتجدد خلايا العقل وتثريه بكل شذرات الجمال الذى نبحث عنه فى كل مكان. وحتى لايطول البحث والتنقيب، علينا أن نبدأ العمل على خلق آليات التذوق الجمالى؛ بإحياء فنون التراثوالفولكلور الأصيل؛ والعمل على زيادة قاعات العرض التى تعنى بإنتاج الفنانين الشباب، على أن تقام ندوات جماهيرية على هامش هذه الفعاليات والعروض، يتولى ريادتها وإدارتها أساتذة متخصصون فى شرح سيكلوجية الخطوط فى اللوحات الفنية؛ وتبيان مدى تضافر الألوان مع بعضها البعض بما يسمى الموسيقى اللونية.

ولا يخفى على المتخصصين فى فروع الفنون المختلفة مظاهر الاتصال والقواسم المشتركة التى تمد جسورًا من التناغم بين كل لون من ألوان الفنون؛ فهى تستقى من جاراتها ما يغذى ويكمل ويبرز مواطن الجمال المنطوى عليه، لذا نجد من يتذوق الموسيقى مثلاً؛ لابد أن يستشعر ما فيها من تشكيل وزخرفة وتلاوين؛ تعمل عليها الآلات الموسيقية المختلفة وإيقاعاتها التى تتواصل مع التعبير الجسدى الذى يتمايل معها فى شبكة متصلة تتبلور فيها كل الفنون وتتضافر فنعيش حالة تكامل نتماهى معها ويسمو وجداننا وننعم بالجمال فى أبهى صوره فنتلمس آدميتنا.. فنمو الذائقة الفنية ينبنى على إحساس المرء بالجمال؛ ويضفى على حيواتنا معنى أثيرًا نترفع به ونرقى خلقا وسلوكًا.

ليتنا نهتم بجعله من روتين حياتنا اليومية هذا هو المأمول طريقاً لنبذ العنف!

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون