مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ .. فَلْيَتَزَوَّجْ

فإذا حاولنا الدخول إلى منطقة مشكلة تعسر زواج الشباب ومواجهة ظاهرة العنوسة، سنجد أن المنحى الدينى يذكرنا بقول رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: «يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ»، والباءة هى الاستطاعة والقدرة على تحمل المسئولية، والقيام بالأعباء الجسام لمواجهة شظف العيش. وإذا أخذنا الاتجاه السياسى، فسنواجه بضرورة مطالبة الدولة بتعديلالكثير من القوانين التى صاحبت فترة الانفتاح الاقتصادى غير المدروس، وكلها لصالح أصحاب رءوس الأموال، المهيمنين على سوق العمالة واقتصادياته، تساعدهم التكنولوجيا المتقدمة فى الاستغناء عن اليد العاملة والاكتفاء بالأجهزة التكنولوجية التى تعمل على تقليص حجم العمالة والاكتفاء بـالاستعانة بـ«عامل ماهر» واحد لأداء عدة مهام بمالديه من تقنيات؛ وبأقل قدر من المرتبات المعروضة، وتظل الطوابير الطويلة العاطلة فى انتظار اقتناص بارقة أمل، ويستوى فى هذا الانتظار الرجال والنساء على حد سواء!

والغريب أنه برغم الرؤية الواضحة لهذه المشاكل من الأسر المصرية، فإنهم مازالوا يتمسكون بوضع العراقيل أمام كل من يجنح إلى الاستقرار النفسى والعائلى ؛ وتراوده الأحلام فى تكوين أسرة تعينه على مواجهة تيارات الحياة، وليواجَهْ طالب الزواج بالكثير مما يعيقه عن التقدم لاستكمال حلمه المشروع هذا؛ بدءًا من الشبكة والمهر وحفل الزواج؛ الذى تعده الأسرة المصرية مجالاً للتباهى بين الأهل والأقارب والجيران، ثم المعضلة الكبرى فى كيفية الحصول على «عش الزوجية» الشبيه برابع المستحيلات؛ بعد الغول والعنقاء والخل الوفى!، وهو من الصعوبة بمكان فى ظل جنون الثورة العقارية التى فاقت كل الحدود وصعبت حتى على الميسورين، والتى يتراوح ثمن عش الزوجية فيها بين ربع المليون وثلث المليون، وأين القدرة على الوفاء بهذا المطلوب؟، ثم نفترض جدلاً أن العائلة عقدت العزم على الموافقةبجمع «رأسين فى الحلال»؛ وقام «العريس» بالوفاء بكل هذه الالتزامات المجحفة والمرهقة، فقد أصبح الآن مسئولاً عن شريكة المستقبل منذ لحظة «قراءة الفاتحة»، فهُنا تبدأ حلقة أخرى من حلقات سلسلة طويلة ومعقدة من الالتزامات؛ بضرورة الوفاء بمهام أخرى ـ بحسب العرف السائد فى البيت المصرى ـ يلتزم بها أثناء فترة الخطوبة؛ وحتى لايدخل إلى بيت العروس» إيد ورا وإيد قدَّام» وفقًا للمثل الشعبى، فهناك تنتظره القيام بأعباء تقديم هدايا «مواسم» المولد النبوى، الإسراء والمعراج، ليلة النصف من شعبان، ذبيحة أول رمضان، عيد الفطر، عيد الأضحى، رأس السنة الهجرية، رأس السنة الميلادية، شم النسيم، وربما الالتزام القومى الواجب لتقديم هدية محترمة تدل على الوطنية والشهامة فى ذكرى «عيد الثورة» إن لزم الأمر!

وبرغم النداءات الكثيرة التى تطالب بالتخلى عن العديد من الأمور التى تعيق مسألة الزواج وتصيب الشباب بالإحباط، إلا أن هذه النداءات كلها يبدو أنها تذهب أدراج الرياح، بل أصبح أهل « العروس» يتفننون فى خلق مشاكل الزواج بالبحث عن وضع المعوقات التى تصعب من فرص الشباب فى إتمام الزواج، ناهيك عن «قائمة العروس» التى يدرح فيها كل تفاصيل «العفش» وصولاً إلى الأطباق والملاعق والسكاكين والقوارير الزجاحية! والتى تعد حبل مشنقة حول رقبة الرجل، وهى التى تمنع أحياناً استكمال الكثير من الزيجات، بعد إصرار الأهل على معاملة «العريس» وكأنه مستثمر أو شخص يجب التعامل معه على أنه أجرم فى حق المجتمع والناس؛ بطلبه الاستقرار المنشود، وكم سمعنا الكثير من المآسى بسبب هذه «القائمة»، والتى تؤدى فى بعض الأحيان بالرجل إلى غياهب السجون، وكل هذا نشاهده ونعيش لحظاته على الطبيعة ، وملايين من شبابنا يواجهون معاناة «العنوسة» بين الفتيات والفتيان بسبب كل ما سبق، ولكنها العادات والتقاليد المتوارثة، والتى من المفترض أن تكون فى حدود المعقول، ولابد من العمل على تقريب وجهات النظر لصنع المستقبل، وتكون النتيجة الحتمية هى حيرة الشباب بين طموحاته التى تشده إلى أعلى، وفقر الإمكانات التى تجذبه إلى أسفل، ويؤدى به هذا الصراع الحتمى بين الطموح والإمكانات؛ إلى التمزق الروحى والنفسى. والاستسلام لضبابية لا تتضح معها رؤية معالم الطريق الصحيح، وربما تكون النتيجة هى الارتداد إلى الخارج أو إلى الداخل، بحسب تحليل علماء النفس، وكلاهما لا يصنع المستقبل الزاهر والمرجو لشبابنا.

أما آن الأوان للعودة إلى قيم المجتمع المصرى الأصيلة فى تمثل البساطة فى كل شىء وتذليل الصعاب فى كل أمور حياتنا وحياة أبنائنا، وحتى لا نفجع كل صباح بما تحمله صفحات «الحوادث» من جرائم القتل والاغتصاب والخطف والزنا وكل العلاقات غير المشروعة، التى لم نألفها فى كل العصور، وحتى فى أقسى لحظات الظلام التى تخيم علينا بين الفينة والفينة؟!

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون