رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما تصمت النسور.. تثرثر الببغاوات


فى الحقيقة فإن وجود فصائل المعارضة ضرورة كقيمة سياسية ديمقراطية؛ من أجل تقويم عمل الحكومة فيما لو شابها بعض الإخفاقات أو القصور فى بعض القوانين التى تمس احتياجات المواطن -كما ذكرنا-، وهنا يبرز دور المعارضة الوطنية المعتدلة فى المراقبة والمساءلة؛ فهى ليست لتأجيج حمَّى الصراع المجتمعى من أجل البقاء على الساحة.

خيط رفيع يفصل بين الجرأة والوقاحة، والبون شاسع بين الجرأة المهذبة والوقاحة المنفلتة، ويظهر هذا جليًا فى السبُل التى تتبعها المعارضة السياسية فى جميع بلدان العالم الحر، وتتضح أبعادها من خلال ماتنتهجه هذه الدول من النظم المتعارف عليها فى حياة الشعوب.

وظاهرة اختلاف الطبيعة البشرية فى طرق التفكير؛ كانت ومازالت عاملاً مهمًا فى أثناء الأزمات والصراعات التى تدور حول «السلطة»، وبالنظر إلى تصنيف النظم السياسية خاصة فى دول العالم الثالث سنجد أن لكل نظام سياسى مجموعة من القيم والتقاليد، فهناك النظام الشمولى الذى يتميز عادة بنظام الحزب الواحد، وتتكون من داخله أجنحة المعارضة الملتزمة بأهداف وتوجهات الحزب؛ طبقًا للمنهج المتبع لأهدافه، وهى ماتسمى بـ «أيديولوجية الحزب»، وتتم تربية كوادره عبر التنشئة السياسية والاجتماعية؛ بدءًا من مرحلة الطفولة؛ وصولاً إلى أعلى المستويات الدراسية، وهذا يتم لصالح النظام المتبع، لضمان فرض السيطرة والتوجيه الصحيح نحو الأهداف التى تعمل الدولة على رسوخها وتحققها، وتأكيدًا للاستقرار والتنمية فى اتجاه ماتتطلبه.ولكن لماذاالمعارضة؟ ولماذا تظهر ثقافة المعارضة؟ وكيف تكون؟

الدافع إلى ظهور قوى المعارضة؛ يرتبط بنشوء حالة من الاستفزاز والقلق الاجتماعى والسياسي، الأمر الذى ينتهى بشعور الإنسان بالتذمر بينه وبين نفسه داخليًا، أو إعلان هذا التذمر على الساحة فى شكل تجمعات أو مظاهرات، أو اللجوء إلى تكوين مجموعات تتبنى عددًا من المبادىء السامية؛ هدفها تعريف بقية أفراد المجتمع بما يرونه تناقضًا بين السلطة والشعب، مع ضرورة طرح الحلول والبدائل لترميم مايرونه فى رأيهم شروخًا فى جدار النظام السياسى وقراراته.

والمعارضة البناءة فى كل دول العالم؛ هى ثقافة الاختلاف لا الخلاف طالما تعرض وجهة نظرها عن طريق القنوات الشرعية؛ وبالأسلوب المهذب الواجب اتباعه فى المحافل السياسية، وليس بالضرورة أن أختلف مع السلطة دومًا، أو أكون متفقًا معها على طول الخط، حتى إن كنت من مناصريها، ويجب على الأطراف المتحاورة أو المتنازعة أن تلتقى على كلمة سواء فى منتصف الطريق، للوصول إلى وضع الحلول المُثلى لمشاكل المجتمع، بدلاً من أن يذهب كل طرف فى طريق؛ وهو اتجاه تتبناه بعض قوى المعارضة بهدف محاولة استمالة غالبية الجماهير إلى جانبها للوصول بكل الوسائل التنافسية إلى مقعد السلطة، فالمعارضة تكون بناءة؛ عندما يكون سقفها النظام وحدودها مصلحة الوطن، طالما كانت فى إطار ما حدده دستور الدولة؛ والإيمان بأن مطالبات الإصلاح ليست مطلبًا ترفيهيًا؛ بل مطلبًا أساسيًا لخدمة القيم العليا التى تؤمن بحرية الإنسان فى العيش الكريم.

وفى الحقيقة فإن وجود فصائل المعارضة ضرورة كقيمة سياسية ديمقراطية؛ من أجل تقويم عمل الحكومة فيما لو شابها بعض الإخفاقات أو القصور فى بعض القوانين التى تمس احتياجات المواطن -كما ذكرنا-، وهنا يبرز دور المعارضة الوطنية المعتدلة فى المراقبة والمساءلة؛ فهى ليست لتأجيج حمَّى الصراع المجتمعى من أجل البقاء على الساحة؛ بل لابد أن تنافس بشرف وموضوعية لخدمة الصالح العام، فالمعارضة الموضوعية البناءة؛ تعبر عن سنن الاختلاف على أشياء كثيرة من أمور الحياة، وليست المعارضة لمجرد الحظوة بلقب معارض، وإلا اندرج هذا الشخص ضمن قوائم المرضى النفسيين !

وقديمًا قال العجوز الداهية البريطانى «ونستون تشرشل» رئيس وزراء انجلترا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية: «حين تصمت النسور، تبدأ الببغاوات بالثرثرة» !!؛ وهى الثرثرة المقيتة التى لا تتعدى مضامين «المقاوحة» أى المكابرة فى الباطل بلا وجه حق ولا سند ولا دليل، سوى الصوت العالى و«الجعجعة» المقيتة بلا طحن ! وكان «تشرشل» بهذه الكلمات الحادة؛ يقصد شراذم المعارضة التى ثارت فى وجهه تطالبه بالانصياع لإنذار «أدولف هتلر» الذى قال له : «لا نريد محاربتك، نحن نريد استسلامك»، ولم يأبه للمعارضة المغرضة ولم يستسلم؛ لأنه كان يعرف تمامًا الطريق الصحيح لصالح بلاده، وكان النصر حليف انجلترا خلال الحرب.

ويكون شاغلنا الشاغل منصباً على الاعتراف والتسليم بمواقف المعارضة الإيجابية؛ حين ترى بعينين مفتوحتين الأعمال التى تسهم فى إعلاء شأن الوطن والمواطن الذى قامت مؤسسات الدولة من أجل سعادته ورفاهيته، وضمان الحد الأدنى الآدمى لحياته، أما المعارضة الهدامة فهى التى ترى بعين مصلحتها فقط وتركز عليها، وتستغلها لصالح توجهات زعمائها للوصول إلى السلطة والحكم؛ باستخدام الأساليب الميكافيللية التى تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة!

وأخيرًا.. يبقى الإحساس الجمعى فى الشارع السياسى؛ هو الحكم والفيصل بين جميع القوى الموجودة على الساحة؛ ويستطيع بفطرته التقييم بين الفصائل التى تعمل للصالح العام؛ وبين المتسلقين على حبال بعض المصاعب التى قد تشوب المجتمع لأى سبب من الأسباب. وهنا تأتى أهمية التربية السياسية السليمة للأجيال الصاعدة؛ والتعريف والتلقين لأسس المبادئ الوطنية السامية التى تخدم بكل الوطنية توجهات الدولة، لأنهم الأيادى التى ستحمل راية القيادة فى مستقبل الأوطان، وحتى لايكونوا لقمة سائغة فى فم المعارضة المغرضة التى لاهم لها سوى الوصول بكل الوسائل إلى سدة السلطة... ترى.. متى يكف معارضونا عن ثرثرة الببغاوات؟!

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون